لزيجموند باومان مجموعة أُطلق عليها
"المجموعة السائلة" ومن ضمنها كتاب "الحياة السائلة" و"الحداثة
السائلة" و"الخوف السائل" و"الحب السائل"
و"المراقبة السائلة" حيث سيطرت الفردية على حياتنا، وانتصرت الجزئيات
على الكليات، " وأصبح جسد المواطن، الذي يرمز للأمة، جسد المستهلك الذي يلهث
وراء السلع في سوق لا يحقق له الرضا الكامل ولا الأمن أبدّا" (باومان). تحتاج
هذه المجموعة إلى قراءة متأنية وواعية، غير متشائمة، ولكنها تضع أمامها البعد الذي
يتحدث عنه، والحياة السائلة التي بات يعيشها الفرد في "المرحلة الصناعية
الرابعة" من حياة البشرية.
إن مدينة كالرياض ( وخذوا كل المدن
العربية في الحسبان) تنمو بشكل متسارع باتت "تتغذى (فيها) سيولة الحياة على
سيولة المجتمع"، والمغريات التي تقدمها الإعلانات من كل حدبٍ وصوب، عبر التلفزيون
والسوشل ميديا والشوارع والتطبيقات التي في جهازك كلها تجعل "الطفل
ليس رجل المستقبل بل مستهلك الحاضر". لم يعد هناك قدرة على الصبر عن الاستهلاك، لقد دخلت هذه المدينة عصر
الحداثة السائلة بكل اقتدار، إذ إن "استهلاك الأمكنة" يعدّ ميزة فيها، ومن يسكنون في
أحياء فقيرة أو أحياء غنية تجدهم سواء يتجهون نحو أسواقها الضخمة "فيلهثون
لمجاراة شروط المكان من نمط حياة ومظاهر استهلاك، فضلاً عن بروز اللامكان
الافتراضي" والذي تحدث عنه عالم الانثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه ووصفه
بأنه:" إذا أمكن تعريف مكان على أنه علائقي، وأنه تاريخي، وأنه معني بالهوية،
فإن الحيز الذي لا يمكن تعريفه (بذلك) سيكون "لا مكان"..." (جون
توملينسون،149).
ولا يتوقف هذا العرض المغري الذي نشاهده عبر الأسواق على العاصمة بل
تجاوزه إلى مدن كثيرة في السعودية، بل أحيانًا وصل إلى بعض المناطق التي تعد ريفية،
مثل الباحة، أو أبها، التي تعد مثالا للمكان الأنثروبولوجي المعني بالهوية، ففي
سوق "الخميس" ـ والأسواق متعددة في كل منطقة ـ الذي يقام كل أسبوع في
هذا المكان كان التمثيل الثقافي فيه مميزًا، بحيث يكون المكان الذي تتقاطع فيه
المسارات الفردية وتمتزج في الجمعي وتغيب حالة العزلة بين الأفراد عندما يلتقون كل
أسبوع وكل واحد يدلي بحديثه للآخر حيث يكون التواصل، ويكون المكان هو الرمز لهذا
التواصل.
هذه الناحية لا تتعلق بالحديث عن الماضي، ولا بالحنين، ولكنها تتعلق
بالحاضر "الصامت"، بل "الساكن" في قلب الآلات في المحلات التجارية،
أو الصرافات في الأسواق والشوارع، أو الجوالات وأجهزة الكمبيوتر في البيوت، التي
توصلنا إلى إنجازات فردية "لا تكتسب صلابة الأشياء" (الحياة السائلة) حيث التغيرات السريعة
تفقد التعلم من التجربة، ليوصلنا إلى المحاكاة وإلى "أماكن تنطوي على العزلة
(حتى في وجود الآخرين) [عبر المولات مثلا]، والصمت، وإغفال الهوية، والاغتراب
وسرعة الزوال. إنها أماكن يكون فيها التفاعل وسائليًّا وتعاقديًّا -بمعنى تمجيد التعاقد-
منسلخًا عن أي علاقة عضوية مع مجتمع يوجد في حالة استمرارية مع الزمن". (جون
توملينسون، 151).
ليس من عيب في أن نذهب إلى الحداثة،
ولكن العيب يكمن في التطبيق، فكلما ارتفعت نسبة الذاتية أدى ذلك إلى الاستهلاك، ودلل
ـ أيضًا ـ على عدم الإنتاجية، ولا يتوقف الاستهلاك هنا على المنتجات المادية بل
سيتجاوزها إلى المنتجات الفكرية، وبالتالي إلى التحول نحو اللامكان، لتأخذنا
التقنية معها وتحشرنا في حيزها، الذي يضع العالم كله بين يديك، وتكون في منزلك في
مكان آخر من هذا العالم، وبهذا تنفصل في البدء جزئيًّا عن بيئتك، إلى أن تصل إلى
الكلية. حتى تصبح عمليات الاختيار الحر في العالم الافتراضي تصب في خانة نظرية
"حقيقة اجتماعية" التي جاء بها إميل دور كايم، وإلى أمر واقع، إذ إن الحياة
اليومية تتحول من خيال إلى واقع، وتنعكس هذه على الفرد، معتقدًا أن اختياره هنا
حرًّا بينما هو في الحقيقة ليس حرًّا إنما هناك إشارات أو ذبذبات توجهه نحو هذا
الاختيار أو ذاك دون أن يشعر به، والمسألة هنا صورية يفرضها الضغط الشديد من قبل
التقنية، أومن قبل من يسيرها وفق خط متصاعد للهيمنة عليك. "نحن في عالم تزداد
فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل". (جان بودريار، 147)
والملاحظة التي يجب أن نراها هي أننا
كنا نسير على رمال فتغطس أرجلنا حتى الركبتين، ونخرجهما على مهل وبتثاقل، والآن
بتنا نسير على جليد، وعندما تضع الزلاجات على قدميك تحتاج إلى أن تكون سريعًا وإلا
فإنك ستسقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك