السبت، 4 أبريل 2020

الرواية الرصاصة..لاعب الشطرنج


الرواية الرصاصة "لاعب الشطرنج"
عندما تشعر أنك جزء من الكتاب الذي بين يديك فتأكد بأن الكاتب خاطب النفس البشرية التي بين جنبيك، وعليك أن تتأكد ـ أيضا ـ من أنه استطاع مخاطبتك بما تريد، وسعى إلى أن تتحد مع فكرته ومع شخوصها لتخوضا معًا تجربته التي يرويها لك. وهذا النوع العميق لم أقرأه بتركيز منذ أن قرأت "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، رغم أن الرواية التي قرأتها تأخذ خطًا مختلفًا عن روايات التفاصيل الصغيرة، لأنها تتجه نحو نوع أسميه "الرواية الرصاصة" أي ذات طلقة واحدة تخرج دفعة واحدة، ولا تحتاج إلى عدة طلقات كي تكمل مشهدها.
هنا سأنظر في المرآة وسأعكس لكم رواية قصيرة كتبها الكاتب النمساوي المنتحر " ستيفان زيفايغ" وهي "لاعب الشطرنج" حيث أنك ما إن تبدأ في تخيّل رقعة الشطرنج حتى تلج إلى عباقرة الاتجاه الواحد؛ أي الذين يحشرون نفسهم في زاوية واحدة لا يغادرونها، ولا يفكرون في أي شيء آخر سواء كان أخلاقيًا أو علميًا أو تاريخيًا أو أي متعلقات أخرى بالحياة، إذ إن شخصية
البطل القادم من "الهامش" ترتقي سلّم المجد سريعًا عبر تغلبه على عمالقة الشطرنج ليكون بطلاً للعالم، بطلاً يتلبس الكبرياء والغرور وكأنه يحمل عقدة نفسية في داخله لا فكاك منها. وهذا التصوير يقابله حالة أخرى من لعبة الشطرنج والتي تحدث أيام دخول هتلر النمسا، ليتضح أن الاتجاه الواحد ليست فقط للاعب الشطرنج بل حتى للعسكر أو التجار أو القضاة أثناء الحرب العالمية الثانية. والوجه الذي يظهر في البطل "كزنتوفيك" القادم من القاع هو: "إن جهله عليم بكل شيء"، بينما من يقابله على الطرف الآخر هو محام للإمبراطورية النمساوية، بخلاف أن من كان على متن السفينة متعددو الوجوه والطبقات، أي أن زيفايغ رسم الحياة بكامل طبقاتها على طاولة شطرنج.
الرسمة التي رأيتها في هذه المعزوفة الصغيرة كانت من خلال الغرفة الضيقة التي كان فيها السجين "ب"، هي أن المربعات التي يتخيلها في ذهنه هذا السجين: خطوط الطول والعرض في الكرة الأرضية، فالمعركة قائمة في ذهنه بين شخوص روايته عبر رقعة الشطرنج؛ فالكل لاعب والكل مشاهد. واللعبة في الأساس نفسية حيث أنك لوحدك تصارع ذاتك، وهي معركة وجود واضحة. وهذه الرواية الصغيرة لم تتعمد ـ وبكل وضوح ـ بالزج بالقارئ في مشاهد تخرج عن الإطار أو تستدعي الأشياء، بل مباشرة اتجهت نحو العمق الإنساني، وصنعت عالمها النفسي في إطار الدائرة المرسومة لما يحاك للإنسانية من صراع ذاتي يفرضه الآخرون، سواء عبر غزو النمسا أو عبر الزج بـ "ب" في السجن، أو الزج بهذا الطفل العبقري "كزنتوفيك" في معركة أصلاً لا ينتمي لها وليست من طبقته، أو عبر المشاهدين الذين يتجمعون لمشاهدة هذا الصراع ويميلون دومًا باتجاه كسر أي بطل أو يأملون دومًا أن يخسر هذا الناجح، إنها قصة حياة كاملة للبشرية ربطها زيفايغ في 80 صفحة فقط.
الرواية تحكي عن نفسية المؤلف تقريبًا وهي رسالة وداع إذ كتب لصديقه هرمان كيتسن قبل انتحاره بخمسة أسابيع: "ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي. كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضل البائس، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو مجلة وأقصر من أن يضمها كتاب وأشد غموضاً من أن يفهمها جمهور القراء العريض وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته". والدليل على أنها كذلك ـ رسالة وداع ـ هو أنه ختمها باضطراب ولم يستطع إكمال اللعبة مع بطل العالم في الجولة الثانية رغم فوزه عليه في الجولة الأولى.
إن قصة انتحاره تحاكي تمامًا "لاعب الشطرنج"؛ ففي "يوم 21 فبراير عام 1942 جلس في بيته الفخم يودع معارفه بريدياً ويشرح لهم أسباب انتحاره وكتب يومذاك 192 رسالة وداع بما في ذلك رسالة إلى زوجته الأولى وبعد ذلك دخل ستيفان زيفايغ وزوجته الثانية إلى غرفة النوم وابتلعا في لحظة واحدة العشرات من الأقراص المنومة وتعانقا بحنان وطال العناق". هنا لا أعلم لماذا أخذ معه زوجته الثانية في هذه الرحلة الدائمة؟ وهل انتحارها معه يدلل على "لعبة الشطرنج" التي نحرها في داخله "ب"؟ إنها رواية قصيرة تثير الأسئلة!

م/غ

حمّل الرواية من هنا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك