ستيفن كينج ونادي الكذابين
(1)
ليس
عليك أن تكتئب الآن "حتى تشارلز دیكنز، الملقَّب شكسبیر الروایة، واجَه
ھجوماً عنیفاً متواصلاً نتیجة مواضیعه المثیرة في
أغلب الأحیان" هكذا يرمي
ستيفن كينج بكلماته، وهو صاحب الخيال الخصب الذي قدم روايات تتمتع شخصياتها بقدرة
فائقة، لم يستطع كتاب الواقع الوصول إليها، وليس هنا مجال الكتابة عن رواياته، بل
عن سيرته في كتابه الذي عنونه بـ "مذكرات هذه الصنعة"، ومما يبدو أنه في
النصف الأول من الكتاب كان متأثرًا بكتاب "نادي الكذابين" حيث يقول في
مقدمة كتابه " ذُھلتُ من مذكرات ماري كار ليس فقط بسبب ضراوته وجماله ومَلَكتھا
القویة للتعابیر العامیّة، بل بسبب كلّیته- إنھا امرأة تتذكَّر كل شيء عن
طفولتھا... تستعرض ماري كار طفولتھا في بانوراما متواصلة تقریباً." (المقدمة)
و"ماري
كار" وهي الملقبة بملكة المذكرات، لأنها وحسب قراءاتي عنها تحكي أدق التفاصيل
في كتابها "نادي الكذابين".. حيث قدمت مهارتها العالية بلغة شاعرية
تفوقت فيها في السرد " أقوى أداة لديها هي لغتها، التي تستخدمها ببراعة كل من
شاعر غنائي وتكسان أرضي متواضع. إنها قادرة على وصف كل شيء بدءًا من جشع جدتها في
الجدال ("لقد تمسكت به مثل وحش جيلا") إلى صورة أختها وهي تغوص في
المحيط ("يمكنني أن أرى أقدام ليسيا البيضاء الباهتة مثل زعنفة ذيل النيون
حورية البحر تنزلق بعيدًا عن متناولها ") إلى فرحتها برفقة والدها (مجرد
الخروج معه ورفاقه" يضيئني بدرجة كافية ليقرأها شخص ما ") بنفس الاتزان
والدقة والذكاء. إنها مهارة تُستخدم في هذه الصفحات لخدمة رؤية رائعة غير عاطفية
تسترد الماضي حتى عندما تستعيده على الورق." (النيويورك تايمز) "مضحك
بشكل شرير".."آسر وصادق" .. " صوت لا يتداعى" ..
"الحقيقة تنبض بقوة". لم أقرأ كتابها بكل صراحة، ولم يترجم إلى العربية،
ولكن قرأت عنه الكثير، وقد احتل مكانة رفيعة وكان أفضل كتاب سنوي لمجلة النيويورك
في أمريكا. لا يهم هي لمحة لعل من يظهر ويترجمه لنا، كي نستطيع العيش في التفاصيل
الصغيرة لأسرة رسمتها الشاعرة بشكل كاريكاتوري، ولكن بتعبير إنساني، فهم في
النهاية بشر ـ بتعبير الواشنطن بوست.
كالعادة
أسترسل مع كتابين أو ثلاثة في وقت واحد، وهو شيء قد يقدم لكم بعض المعرفة عن هذه
الكتب.. وآسف على هذا الاستطراد الذي هو أصلاً في بلاغتنا العربية، حين نقول الشيء
بالشيء يذكر، وبعد استرسال وغفوة للحضور نعود إلى الموضوع الأصلي، وهو قارئ
كالفينو وكاتب ميلر؛ لنجد أن كينج يقول:" هناك ملهم، لكنه لن یأتي مرفرفاً
إلى غرفة تألیفك وینثر بعض الغبار العجیب الإبداعي على آلتك الكاتبة أو كمبیوترك."
ومن هو؟ ـ إنه شاب عادي یعیش على الأرض. علیك الھبوط إلى مستواه، وبعدما تنزل إلى
ھناك علیك تأثیث شقة لكي یعیش فیھا. علیك القیام بكل الجھد المطلوب، بمعنى آخر، بینما
یجلس المُلھِم لیدخِّن سیجاراً ویُبدي إعجابه بكؤوس البولینغ التي فاز بھا ویدَّعي
أنه یتجاھلك. ھل تظن أن ھذا عدلٌ؟ أظنه عدلاً. قد لا یكون النظر إلیه ممتعاً، ذلك
الرجل المُلھِم، وقد لا یكون متحدِّثاً لبقاً (ما أحصل علیه من مُلھِمي في الأغلب
ھو ھمھمات فظة، إلا إذا كان في الخدمة)، لكنه یعطیني الإلھام. صحیح أنك یجب أن
تفعل كل العمل بنفسك وتحرق كل زیت منتصف اللیل، لأن الشاب ذا السیجار والجناحَین
الصغیرَین یحمل كیس غبار عجیب في داخله أمور یمكنھا أن تغیِّر لك حیاتك. صدِّقني، أنا
أعرف". إن فكرة خلق الملهم ليس شرطاً أن تكون خيالية كخيال هذا الكاتب، ولكن
قد تكون حقيقية وأمام عينيك، وتراها باستمرار، وكل ما تحتاجه بالفعل هو أن تحضر
القهوة والشاي والسيجارة له، كي تستشف منه ما تريد! قطعاً هو يرى شاباً وقد ترى
عجوزاً أو كهلا أو شابة، أو كتاباً أو قطعة مهملة في زاوية الشارع.. ولكنه يقصد
تحديداً الشاب الذي في داخلك، وليس خارج هذا الإطار، أي ليس عليك أن تذهب إلى
كالفينو كي يلهمك، بل اذهب إلى نفسك!
كينج
منذ البدء في الجزء الثاني من الكتاب يقول لك: 1ـ اقرأ كثيراً واكتب كثيراً"
أجد صعوبة في تصدیق أن الأشخاص الذین یقرأون قلیلاً جداً (أو لا یقرأون على
الإطلاق في بعض الحالات) یتجرّأون على التألیف ویتوقعون من الناس الإعجاب
بأعمالھم، لكنني أعرف أن ھذا حقیقي..." هذه نقطة. 2ـ لا تقرأ من أجل الحرفة
وتعلمها بل اقرأ من أجل القراءة.
ولأنه يقرأ سبعين كتاباً في السنة، رغم أنه بطيء،
فهو يقول: "لا توجد كلاب سیئة، لكن لا تقل
ذلك لوالد طفل ھاجمه كلب؛ فسوف یھشّم لك وجھك على الأرجح. ومھما أردتُ تشجیع الرجل
أو المرأة الذي یحاول التألیف جدیاً لأول مرة، لا یمكنني أن أكذب وأقول إنه لا یوجد
كتّاب سیئون."88، ولكن
عندما يصرخ الإنسان بعد أ، يقرأ كتاباً ويقول" " تبا أستطيع أن أؤلف
أفضل من هذا!" فإن ذلك يعني أنه بدأ يتمرس في القراءة لا في الكتابة، "القراءة ھي مركز الإبداع في حیاة الكاتب. وأنا آخذ معي كتاباً أینما
أذھب، وأجد أن ھناك جمیع أصناف الفرص للاستفادة منھا. السر ھو في تعلیم نفسك القراءة
برشفات صغیرة وبابتلاع طویل. لقد وُلدَت صالات الانتظار للكتب - طبعاً! وكذلك ردھات المسارح
قبل بدء العرض، وصفوف الحجز الطویلة والمُضجرة، والمكان المفضَّل لدى الجمیع،
الحمّام. حتى إنه یمكنك أن تقرأ بینما تقود، بفضل ثورة الكتاب الصوتي" وأنت تقرأ في الشارع
مثلا أو في المطعم لا تخجل من ذلك ولا تفكر فيمن حولك إذ " یجب أن تكون
الفظاظة البند ما قبل الأخیر في لائحة ھمومك. آخر ھمومك یجب أن یكون
المجتمع المھذّب وما یتوقعه منك."92
قسم كينج الكتاب إلى ثلاثة: سيء، كفء، جيد...
والجيدون هم القليلون في الكتاب لأنهم عباقرة، ويرى أن الكفء يستطيع أن يصبح جيدًا
لكن ذلك نادر الحدوث، إذ يكتفي معظمهم بما وصل إليه من الكفاءة. ولعل مرد ذلك أن
الموهبة لديه اكتفت من الدربة التي يمارسها العباقرة باستمرار من أجل الوصول إلى
هذا المستوى المدهش للقارئ. أتذكر أن نجيب محفوظ مثلاً كان يكتب عشر ساعات في
اليوم، وكان يمزق الأوراق باستمرار من أجل تركيب جملة جيدة، ولكن هناك كتاب يكتبون
ولا يلتفتون للوراء أي أنهم يكتبون ويختمون كتبهم ثم يرسلونها للمطبعة، لأنهم يرون
أن دورهم انتهى هنا، وعلى المحرر الذي سيحرر كتابه أن يراجع ويعيد تنسيق الجمل..
وما إلى ذلك، وهم كثر.
ستيفن كينج يكتب 2000 كلمة في اليوم ما يوازي
180000 كلمة في ثلاثة أشهر، أي أنه كاتب ربع سنوي، وبما أن كالفينو قدم لنا صرخته
من أجل أن نقرأه وبالطرق التي تعجبه فإن كينج هنا يقدم صرخته نحو الكتابة إذ
" لا داعي لأن تحوي غرفة تألیفك دیكور
فلسفة بلایبوي، ولستَ بحاجة إلى أحدث طراز من الطاولات لتضع علیھا أدوات تألیفك.
فقد ألَّفتُ أول روایتین نُشرتا لي داخل غرفة الغسیل في مقطورة مزدوجة،
مستخدماً الآلة الكاتبة ماركة أولیفیتي والخاصة بزوجتي وموازناً طاولةً صغیرةً على
فخذيَّ؛ ویُقال إن جون شیڤر كان یؤلِّف في قبو مبناه السكني على جادة
بارك أفینیو، بالقرب من السخّان. یمكن أن یكون المكان متواضعاً، ویحتاج حقاً إلى
شيء واحد فقط: باب ستكون مستعداً أن تغلقه. الباب المُغلق ھو طریقتك لإخبار العالم
ونفسك أنك جدّي؛ أنك التزمتَ إلتزاماً جدّیاً بالتألیف وتنوي السیر به حتى النھایة.
حین
تدخل غرفة تألیفك الجدیدة وتُغلق الباب، یجب أن تكون قد وضعتَ ھدفاً تألیفیاً یومیاً. كما
ھو الحال مع التمرین الجسدي، سیكون من الأفضل تخفیض ذلك الھدف في البدء، لكي
تتجنَّب وھن العزیمة. أقترح علیك ألف كلمة في الیوم، ولأنني أشعر بالشھامة،
سأقترح أیضاً أنه یمكنك أخذ یوم استراحة واحد في الأسبوع، على الأقل في البدایة. ھذا یكفي؛ وإلا
ستخسر الإلحاح والفوریة في قصتك. بعد وضع ذلك الھدف، اعتزم أن یبقى الباب مُغلقاً إلى أن تحقّقه.
ھیا أشغِل نفسك بطباعة تلك الكلمات الألف على ورق أو على قرص مرن." 96
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك