قراءة لتقرير معهد راند
لا شيء يهزّ العالم 17
استغلال القوى العالمية للطائفية
بلا شك هنا أن صناع القرار في الولايات المتحدة، وجماعات الاستخبارات الأميركية هم الجمهور الأكثر أهمية لهذا التحليل، وهو موجه بقصدية لهم. خصوصًا وأنه يقدم شكره لقيادة الاستخبارات الأمريكية على تمكينهم من هذا البحث. وفي نفس الوقت هو يقوم تحت رعاية مكتب "وزير الدفاع". وهو أيضًا يضع تصوره لعشر سنوات مقبلة تبدأ من 2016 وتنتهي 2026م.
وبالعودة إلى البحث مع قراءة الواقع، سنلحظ أن إيران منذ ثورتها الخمينية بدأت على تأصيل الطائفية في المجتمعات العربية، وسعت إلى استقطاب رموز الطائفة الشيعية طوال سنوات عديدة وإلى اليوم. وبعكس مثقفي العالم العربي فإن من تبع نظام الملالي من هذه الطائفة سيجد أن مثقفيهم يدافعون وينافحون عن هذا النظام بحجة أو بستار أنهم أقلية، مما جعل بعض المثقفين العرب من الطائفة السنية يتعاطفون أو أن أصواتهم جامدة لا تقدم ولا تؤخر مؤثرين الصمت في حالة توجهها نحو السياسة بل حتى نحو الدين.
واستطاعت القوى الدولية مع استفحال الطائفية أن تستغلها بشكل واقعي وصريح؛ إذ إنها تتعامل معها كما تحدث بميل لمصلحة إيران، فالقراءات السياسية الغربية منذ بداية الألفية الماضية، ومع العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين تعاملت مع الطائفية بما يخدم مصالحها، وتوجهاتها تجاه منطقة الشرق الأوسط أو العالم العربي، أو المنطقة العربية، ومع ذلك ومنذ ذلك التاريخ لم يظهر مشروع ثقافي يتصدى لذلك، ولم تدور عقول مراكز البحوث العربية القليلة لتضع احتمالاتها مثلما وضع معهد راند هذه السيناريوهات الأربعة الملفتة للنظر، والتي تقدّم احتمالاتها الأربعة، أو خياراتها الأربعة التي تخدم مصلحة التوجه الاستخباراتي، بحيث أن كل سيناريو بالإمكان استخدامه للتوجه نحو الاستراتيجية العامة للمنطقة العربية، والتي نعي أنها تريد تفتيتها، وتحويلها إلى أقاليم ودويلات صغيرة، تمكن أعداء الأمة العربية من السيطرة عليها، وهو مفهوم بلا شك يخدم دولة إسرائيل الكبرى، ولا يخدم ما قدمته أمريكا عن "الشرق الأوسط الكبير"، وما هو إلا لذر الرماد في العيون، فالأساس هو "إسرائيل الكبرى".
هذه الدراسة، أو البحث، قدمت تصورها على أن السنة والشيعة يتقاسمان المنطقة بالنصف، ويتعادلان في المكون واحد مقابل واحد، أي أن 50% سنة و50% شيعة وذلك غير صحيح ففي "كتاب حقائق العالم" أورد الآتي: "الفرعان الأساسيان للإسلام هما السّنة والشيّعة، ويمثل الإسلام السني 75% من سكان العالم، ويمثل الإسلام الشيعي ما بين 10 و20%" أي أن هناك مبالغة في الطرح، وبحسب الدول العربية الممتد فيها الشيعة فإن النسبة لا تتجاوز 35%، وحتى الأباضية وهي فرع من الشيعة أبلغني أحد الصحفيين في عمان أن نسبتهم لا تصل إلى 45% وأن مثلهم أو أكثر سنة، والبقية خليط. بينما البحرين لا يصلون فيها إلى 60% على الرغم من أن عدد السكان لا يؤثرون كثيرًا فهو قليل، مقارنة بالسعودية أو سوريا أو مصر.
ولعل هنا يوجد مبالغات في تقديم المعلومات، وفيما أرى أن هذا مقصود كي تميل الكفة لمصلحة الأجندة التي يتم العمل عليها، وهو سعيٌ مفضوح بالنسبة لمن وضع التقرير، وبالتالي يتضح للجميع أنهم ليسوا أغلبية على الإطلاق ولا يصلون إلى النصف مثلما أشار التقرير.
سنلحظ في هذه الدراسة أنها ركزت على ثمانية دوافع: الهوية الذاتية، وطابع الخطاب الديني، والجهات الفاعلة غير الحكومية، وجميعها إما تبني أو تهدم، ويأتي ذلك حسب استغلال المحركين لها، سواء زعماء الدين أو الدعوات للطبقية أو الولاءات الوطنية، أو جماعات المجتمع المدني. ثم يأتي دافع الدول الإقليمية، ونوعية الحوكمة، والظروف الاقتصادية، واتجاهات الصراع، وجميعها تفرضها الدول، فإما أن تسير بها لتعزيز الطائفية أو الحد منها وسواء كان ذلك عن طريق الحوكمة العادلة والرشيدة أو عن طريق التمييز في الحوكمة. بينما تأتي التوجهات الاقتصادية من الدول وتغذيتها بالضغط على المجموعات الدينية أو العكس بتخفيف الضغط وتقديم الخدمات وتقاسم الأرباح مع الجميع دون تمييز. والدافع الرابع في هذه المجموعة إما أنه يحد من الصراع أو يغذّي الصراعات في المنطقة. ليكون الدافع الثامن وهو المرتكز في هذا التقرير بحيث أن تغذية الصراع أو الحد منه، أو المساعدة في حل الصراع أو العكس هو مرتكز العملية السياسية في المنطقة العربية، وبالإمكان اللعب في هذا الإطار من أجل استمرار هذا الشتات والتشرذم في المنطقة العربية. وذلك لاستمرار "فرض نفوذها" كما أشار إلى ذلك التقرير.. وهو الأقرب لنا!!
السيناريوهات
في السيناريوهات سنلحظ السيناريو الأول: النزعة المحلية وتراجع الطائفية، أنه يركز على ثلاثة أجزاء في الدوافع وهو :الهوية الذاتية، الجهات الفاعلة غير الحكومية، والحوكمة ونوعيتها؛ بحيث تمت ملاحظة تراجع هوية الإسلاموية وهي التي كانت أكثر تأثيرًا في المنطقة على مدى ثلاثة عقود أو تزيد، مما يؤدي إلى ظهور نزعة محلية تطالب بدور أكبر في إدارة شؤونها، يقابل ذلك انحسار المد الشيعي باتجاه إيران بعد اكتشاف الأقليات الشيعية أنها بعيدة كل البعد عن القيادة الإيرانية وأن هناك تمايزًا واضحًا في التعامل مع المكون العربي الشيعي، وهذا قد يؤدي إلى تفويت الفرصة في استمرار الصراع، ولعل الرؤية العميقة في هذا الشأن قد تأتي من خلال تحرك الولايات المتحدة الأمريكية وسعيها بالإطاحة بنظام الملالي، أقول قد يكون، من أجل إعادة بناء الثقة بين المد الشيعي الفارسي والعربي، إذ إنها وصلت إلى جدار مسدود، وخصوصًا مع ملاحظة أن العراق الآن يفور من تصرفات الملالي فيه، ولم يعودوا أهلا لثقتهم وهم الأقرب لهم. وفي المجمل فإن النزعة المحلية هي المؤثرة في هذا السيناريو.
في السيناريو الثاني والذي تم تصنيفه تحت: عسكرة الطائفية الشيعية والفوضى السنية، ويستقطب هذا السيناريو دافعي الهوية الذاتية والجهات الفاعلة من الخارج. يأتي هذا ليفتح الأفق أمام هذا التدخل الخارجي ـ بحسب تصوري ـ لبقاء معسكرات شيعية صغيرة ، كمعسكر حزب الله ، والحوثي في اليمن، وغيرهما، من أجل استمرار الفوضى داخل المكوّن السنّي، وذلك بحثًا عما يصوره التقرير في إنه إعادة للتوازن التاريخي، وسيطرة المكوّن الشيعي على مناطق النفوذ التي يراها أنها من حقه، وهي نقطة في غاية الخطورة إذ تقدم إيحاءاتها بشكل مقنن على استمرار الفوضى، ولا تدعو إلى نزعها، "والنتيجة النهائية هي أن الجهات الفاعلة الشيعية تبحث عن الفرص لتوسيع نفوذها في حين تقف الجهات الفاعلة السنية موقف الدفاع. وتعزّز الديناميكية نفسها إذ تدرك الجماهير الشيعية أن مكاسبها ممكنة بفضل وحدتها ويزيد ذلك من التزامها بهذا المبدأ. وفي المقابل، يؤدي تراجع المعسكر السني إلى المزيد من الاتهامات المتبادلة والخلافات على مستوى القيادة وبالتالي تعميق الشقاق".
بينما السيناريو الثالث: استراتيجية حافة الهاوية تجلب الانفراج، يحمل في طياته رؤية الحرب بين السعودية وإيران عبر تأجيج الصراع والطائفية واستمرار حرب الوكالة في المنطقة العربية. وذلك عبر دافعين ـ كما جاء في التصور: طابع الخطاب الديني، والدول الإقليمية والجهات الفاعلة من خارج المنطقة، و"يتسم هذا السيناريو بتصعيد الصراع الطائفي الذي يتجّه نحو صراع إقليمي يضع السعودية وإيران في مواجهة عسكرية مباشرة قبل أن يتراجع في نهاية المطاف".
وإيحاءات هذا السيناريو جميعها تتجه إلى حرب في النهاية بين المملكة وإيران، وأوجد في نفس الوقت انفراجة في وسط المعمعة التي تصورها، بحيث يلجأ البلدان إلى التهدئة وعدم الذهاب إلى حافة الهاوية، وتوقف الخطاب الديني المتشدد في السعودية وفي نفس الوقت توقف الباسيج عن أفعالهم في الطرف الإيراني. ورأي السيناريو أن هذا التصور هو الأكثر صعوبة من ناحية تصميم التدخلات السياسية إذ يفيد أحد تفسيراته أن الأمور ستزداد سوءًا قبل أن تتحسّن. وكأنه يشير إلى أنه يجب أن تذهب إلى الأسوأ!!
أمّا السيناريو الرابع فيتصور استمرار العنف الطائفي عبر "الصراع الإثني" وعن طريق دوافع الهوية الذاتية والجهات الفاعلة غير الحكومية واتجاهات الصراع، وهذا قد يفرض الفصل للطوائف، ولا يحيدها هنا كما يُرى بل يرسلها إلى الانكفاء على ذاتها وعدم تقبّل الآخر، وبالتالي تحدث المجازر مثلما حدث في الموصل والتهجير الكبير الذي تم فيها للسنة، والتطهير العرقي الواضح عيانًا بينًا للعالم. بخلاف ما نراه في اليمن وما يقوم به الحوثي تجاه السنة وتهجيرهم وطردهم من منازلهم وقتلهم. وقد أشار التقرير إلى دول صغيرة كالكويت والبحرين بحيث أن كل طائفة لا تسكن في حي واحد مع الطائفة الأخرى، وهو ما ينذر بانفجار مرتقب مع هذا التحييد الذي يحدث في البلدان في أي وقت ممكن. وهو سيناريو محتمل الحدوث وقد يخطط له بشكل جيد، عبر تدخلات خارجية حتى وإن لم يضع السيناريو دافع الجهات الخارجية في هذا السيناريو!!
ماذا لدينا الآن
بعد مرور سنتين من هذا التقرير ما الذي حدث؟ وما الذي سيحدث؟
ما نلحظه على أرض الواقع خلال السنتين الماضيتين هو استمرار دعم الحوثي من قبل الأمم المتحدة فكلما حاصر التحالف العربي صنعاء أو غيرها من المدن التي يسيطر عليها، وقفت الأمم المتحدة ضده، وظهرت بسيناريو للحل السياسي من أجل فك الضغط عنه، أي أن بقاء الجماعات الصغيرة من الشيعة وتوابعها يجب أن تستمر في المنطقة العربية، لأنها هي العامل المساعد على خلخلة المنطقة، وهي ستشغل الحكومات العربية عن التطور أو التقدم في ميادين الحياة، وتحقيق رفاهية لشعوبها خصوصًا دول الخليج العربي التي تعد رافدًا حقيقيًا للبلاد العربية، فإشغال هذه المنطقة بمثل هذه الحرب، وبما يحدث في سوريا والعراق سيبقي الوضع تحت السيطرة، وبهذا فإن دعم المعسكرات الشيعية ستبقى، وهو ما اتضح خلال السنتين، فعلى الرغم من العقوبات المفروضة على الحشد الشعبي دوليًا إلا أن قادة العالم يقفون جنبًا إلى جنب في المعارك في العراق مع أسماء تعد مجرمة وعليها مطالبات دولية. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة تصدر سنويًا قرارًا بتجديد تجميد أموال الحوثي وتسليم أسلحته إلا أنها تتفاوض معه؛ أي بوضوح تام تتعاون معه من أجل استمرار هذا السيناريو.
وما نلحظه في هذا السياق هو أن عملية الفصل بين السنة والشيعة قائمة في جميع المناطق العربية، سواء كان ذلك بتأثير داخلي أو تأثير خارجي، كما يحدث في سوريا والعراق. ومن هنا فإن ذلك قد يؤدي إلى الانفجار في أي وقت، وقد يتم استغلال ذلك بشكل صريح. ويبقى أن نقول أن جميع السيناريوهات محتمل حدوثها مثلما يقول واضعو هذا التقرير.
وضعت في الجزء الأول نهجًا نعمل عليه "ادفنها قبل أن أراها".. وهنا وأمام ما قرأناه، وبعد مرور سنتين من هذا التقرير وبقاء أكثر من 7 سنوات على هذا التصور أرى أن نقرأ الآتي:
ـ قراءة اتجاه الإسلامويين والعمل على أن يعيدوا النظر في توجههم لأن ما يفعلونه لا يخدم بلدانهم بقدر ما يضرها، ولن يحق المبتغى الذي يسعون إليه، لأن استمرارهم على النهج الذي يحلمون به هو غير واقعي، خصوصًا وأن جميع الدول العربية ليست دولا منتجة لا تستطيع مقاومة التيارات التي أمامها إلا بتكاتف الجميع في كل بلد، والعمل بالروح "الوطنية" على الأقل في هذه المرحلة التي تمر بها المنطقة!!
ـ توقف الصراع بين المؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني.
ـ يجب على الخطاب الديني أن يكرّس المسألة الوطنية في خطابه، ويكرّس الانتماء الإيجابي، وينشر التفاؤل لا التشاؤم في دوله.
ـ بناء تعددية الرأي وتعددية الأحزاب، والعمل على الحوار بين الأطياف بشفافية كاملة فيما تبقى من الوطن العربي.
ـ إيقاف الانقسامات في المكوّن السني، واحتواء المكوّن الشيعي في كل بلد، والمكونات الأخرى الطائفية والدينية.
ـ نبذ الفرقة في المكوّن السني في العالم العربي، والوقوف على لبّ المشاكل والصراعات، ولماذا تعددية الخطاب الديني الذي ينسف بعضه بعضًا؟ والعمل على أن يكون في اتجاه واحد متسق ومتناسق، ومترابط بحيث أن الأجندات الغربية تقف عنده وتعي أن هذا الخطاب يستطيع لم شتاته بشكل سريع.
ـ على المكوّن السني استيعاب المكوّن الصوفي وعدم التفريط فيه، بأية طريقة كانت.
ـ القراءة السياسية الناجعة لما يحدث في المنطقة، ومحاولة جذب الأطراف المتنازعة نحو الحوار، وعدم الولوج في مناكفات سياسية لا طائل منها بين الدول العربية.
ـ العمل على تحرك الإعلام العربي، وتحرك مراكز البحث والدراسات لوضع التصورات والخطط من أجل تقييم الأوضاع، والذهاب بها إلى قراءات واعية تفيد المنطقة العربية، وتتصدى لمحاولة خلخلة الأنظمة وإسقاط الحكومات والدول ونشر الفوضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير في معهد راند: https://www.rand.org/pubs/perspectives/PE242.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك