من "بروكنجز" إلى "راند"
لا ننسى أن معهد راند وضع خطة سلام لسوريا[1] بدأها عام 2015 ثم أضاف عام 2016 و2017 واستكمل حتى الآن ما لديه نحو سوريا. تمحورت ـ باختصار شديد ـ حول الآتي:
مساران نحو السلام، يختلفان في نتائجهما: المسار الأول، وهو يركز على توسط في تسوية سياسية شاملة بين الأطراف السورية المتحاربة ورعاتهم الخارجيين، مُتضمنة إصلاح مؤسسات الدولة، وتشكيل حكومة جديدة وخطة لانتخابات، تترافق مع وقف لإطلاق النار، والبدء بعملية إعادة البناء. أمّا المقاربة الثانية، فهي ضمان اتّفاق على وقف فوري لإطلاق النار، تتبعه مفاوضات إضافية حول شكل الدولة والحكومة السوريتين، اللتين يُعاد بناؤهما.
ورأت الخطة أن المقاربة الأولى هي الهدف، رغم صعوبتها، وكل هذا بحثًا عن إيقاف القتال في سوريا بأية طريقة كانت كما ترى الخطة، متوقعة أنه في حال حدوث ذلك فإن الأرض السورية ستكون مقسّمة إلى أربع مناطق: منطقة في حيازة الحكومة، ومنطقة في حيازة الأكراد، ومنطقة في حيازة عناصر متنوّعة من المعارضة السنيّة، ومنطقة تسيطر عليها -إلى حدّ كبير – الدولة الإسلامية في العراق والشام. وبما أنه لا وجود لرعاة أجانب للدولة الإسلامية؛ فإنها مُحصَّنة إلى حد بعيد ضد التأثير الخارجي، ومن المؤكّد أن ترفض أي وقف لإطلاق النار؛ لذا ستكون سورية مُقسّمة -في المحصلة-إلى ثلاث مناطق “آمنة”، وافقت الأطراف على وقف القتال فيها، ومنطقة واحدة، سيكون الأطراف الآخرون -جميعًا-أحرارًا في شنّ حرب على الدولة الإسلامية فيها.
وفي هذه الرؤية نوع من التمويه؛ إذ أنها ارتكزت على أن المكوّن السني هو الذي يسيطر في الواقع، بينما على أرض الواقع هناك أربع مكونات تسيطر على الوضع، علوي، وشيعي، وكردي، وخارجي، ولا وجود للمكوّن السني إلا بالقوة، وهو في الأصل خارج التقسيم، ولكن هذه الإشارة قدمّت الإيحاءات بأن المكوّن السني هو الذي سيسيطر على سوريا في حالة توقف القتال، وهذا خيال بعيد يدحضه ما يحصل على الأرض السورية. هناك نقطة في تقسيم المعهد قد تكون صحيحة، وهي أن داعش يُحتمل أن تسيطر على منطقة لها، ليس لكونها سنية بل لكونها صنيعة علوية إيرانية استخبارية فقط، وموالية للفرس وقد تكون موالية لإسرائيل وتخدم أهدافها في سوريا والعراق، وهدفها الأساسي هو تشويه المكوّن السني، والقضاء على هذا السنّة هو عامل مشترك بين إيران وإسرائيل على حد سواء.
وشددت الخطة على أن أفضل الآمال من أجل وقف المقتلة السوريّة، هو القبول بمناطق مُتفّق عليها، أي آمنة، تأخذ في حسبانها التقسيمات الإثنو-طائفية، والخطوط الحالية للمعركة، بينما تُطوَّر قوة مهمة للمجتمعات المحلّية. وتؤكد الخطة على أن "تجزئةً سوريةً إثنو-طائفيًّا بعيدة عن أن تكون نظيفة، حالها في هذا حال معظم بلدان الشرق الأوسط، فمجتمعات سورية كانت قد تمازجت تاريخيًّا؛ لذا ما من قطاع متماسك من أرض مسكونة من جماعة بشرية مفردة. إضافة إلى ذلك، فإن العرب السنّة يشكّلون أكثر من 76 في المئة من العدد الإجمالي للسكان، وهم موجودون في كل مكان من البلاد، ويشكلون أغلبية، حتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وبقوا موالين لنظام الأسد في حالات كثيرة". ولعلنا لاحظنا هنا أن هذه النقطة وغيرها الكثير مما ورد في تقرير "معهد راند" تم استقاؤه بناء عليها وعلى ما جاء في هذا التقرير كي يضع السيناريوهات الأربعة التي تحدثنا عنها سابقًا في سياق هذه القراءة لمستقبل الطائفية في منطقتنا العربية، أو بالأحرى لما يُراد لها في المستقبل.

وسنلحظ من قبل وفي عام 2014م أن غيرغوري غوس قدّم تقريرًا من الدوحة (معهد بروكنجز) تحت عنوان "الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط" بدأه من منتصف القرن الميلادي الماضي، وتحدث فيه عن هيكلية الصراعات العربية في منطقتهم، وعن مساهمات الأطراف الخارجية في النزاعات في البلدان العربية، موضحًا أن أفضل صورة لما يحدث الآن هو أنها الحرب الباردة بين المملكة العربية السعودية وإيران. وفيه تخفيف من حدة الطائفية في المنطقة، وهو تمويه واضح من التقرير، واستدلاله بلبنان لم يكن ضعف الدولة سببًا بل إضعاف الدولة من قبل الحزبية الطائفية المتمثلة في "حزب الله" سببًا رئيسًا ومكشوفًا للجميع، وهو ما عملت عليه إيران في لبنان طوال عقدين حتى تحقق لها ما تريد، فأرادت أن تفرض سياستها على بقية الدول العربية، بصنع أحزاب لها في كل دولة عربية لإضعاف هذه الدول والسيطرة عليها. يهدف إلى جعل الصراع الحقيقي قائم على لعبة التوازن بين القوى المتصارعة المتمثلة في الرياض وطهران، بينما أساس الصراع كما ندرك هو إشعال الطائفية من قبل إيران منذ مجيء الملالي إلى السلطة.
قطعًا الملاحظة لأي قارئ للوضع، وبما أن التقرير بدأ من منتصف القرن الماضي، سيلحظ أنه لم يشر إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وأنه أهم سبب قامت وتقوم عليه الفوضى في المنطقة، فمنذ تخلص أوروبا وأمريكا من "الحشرات" بتعبير أحد رؤساء أمريكا، والعالم العربي تزداد مشاكله يومًا بعد يوم، وهذا دليل كافٍ على أن القراءة موجهة بالتحديد نحو استمرار "الفوضى" والسير بالمنطقة نحو التفتيت!!
ويشير التقرير إلى أن إيران كانت هي الرابحة في "الربيع العربي" بينما السعودية تقف على خط الدفاع، والملاحظة أن التقرير لم يشر إلى حالة بغداد واحتلالها، ومن ثمّ تقديمها لإيران على طبق من ذهب من قبل الولايات المتحدة، فهذه نقطة مفصلية في تحوّل الصراع في العالم العربي أو المنطقة العربية أو منطقة الشرق الأوسط ـ كما يحلو للغرب تسميته ـ ، ومن هذه النقطة اتضح أن الميول كلها تذهب إلى زعزعة العالم العربي عن طريق إيران، وأن بغداد هي المنطقة المركزية لهذه العمل الفاضح في سياسة الغرب. ومع بدء تساقط الأنظمة العربية سعت المملكة العربية السعودية إلى الحفاظ على ما تبقى من العالم العربي كي لا يسقط، ويكون لقمة سائغة في وجه الاستعمار الذي يستخدم إيران كذراع له لتحقيق أهدافه، وردت السعودية كيدهم في نحورهم عبر تحركاتها التي حاولت فيها أن توقف هذا الزحف المستمر، مما أفشل خططهم، ولم يصلوا إلى ما يريدون. ولكن ما يحدث في سوريا هو الذي يعرقل مسار الرياض نحو تحقيق الهدوء وخروجهم من "الفوضى الهدامة" التي بنتها أمريكا. وقد ضغط التقرير في هذه النقطة عندما قال " وستحدد نهاية الأزمة السورية بشكل كبير مفهوم الشرق الأوسط لمن “انتصر” بهذه الجولة من الصراع على النفوذ الإقليمي".
ولعل التركيز على المكوّن السني في هذا التقرير له أبعاده، فاستخدام داعش إلى جوار المكوّن السني والزج به في هذا المكوّن، كاستخدام باصات حزب الله لنقل "الدواعش"، وكأن العالم بات لا يبصر أن "داعش" مجرد ذراع استخباراتية بيد القوى الخارجية التي تعبث بمنطقتنا العربية. ويأتي التركيز على الحرب الباردة في المنطقة العربية على أنها لا تقف على الثنائية بين دولتين بل على جميع المكونات التي تمر بها، أو تجرفها معها، مشيرة الخطة إلى انقسام المكوّن السني بشكل واضح وحاد.
ورأى التقرير أن مفتاح النجاح في هذه الحرب يكمن في "أن تتمكن قوة إقليمية من دعم العملاء غير الدوليين والحلفاء بفعالية في معاركهم السياسية الداخلية في الدول الضعيفة في العالم العربي. وتتطلب الرعاية الفعالة للحلفاء روابط أيديولوجية وسياسية تجعل العملاء المحتملين منفتحين لعلاقة مع الراعي. لهذا السبب بالذات لم تتمكن إسرائيل وتركيا من لعب دور فعّال جدّاً في الحرب الباردة، فيما نفذت قطر نفوذاً أكبر من حجمها." وهنا إشارة واضحة إلى أن التدخل الخارجي يعد مفيدًا في المناطق الضعيفة لدعم العملاء، والسير نحو الهدف المنشود لتفتيت العالم العربي وتجزئته إلى دويلات.
ويذّكر التقرير الولايات المتحدة الأمريكية بأن هذه الحرب ليست حربها وعليها أن تعتمد مقاربة ضعيفة وتركز على مصالحها الإقليمية الأساسية، والعجيب أنه يذكر أن إيران هي البطل الرئيسي فيها، ومع ذلك ما نشهده على أرض الواقع هو الدعم المستمر لها طوال فترة أوباما، مع الأخذ في الاعتبار أن صراخ ترامب وردة فعل طهران قد حدثت كثيرًا في أزمنة سابقة، ولم تقدم ولم تؤخر في تحييد إيران تجاه المنطقة العربية، بل كان الرؤساء الأمريكان يدعمون الجانب الإيراني في السر على الرغم من ادعاء العداء بينهما علنًا.
ويشير التقرير بوضوح تام إلى أنه " ثمة عنصر مهمّ للغاية في هذه الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط، ألا وهو الطائفية. إلا أنه لا يمكن فهمها ببساطة على أنها معركة "بين السنة والشيعة". إن هذه الحرب ما هي إلا لعبة توازن القوى." وهذا صحيح إلى حد ما لكن ما يحدث هو قائم على التأجيج الطائفي الذي لعبه الملالي عبر تصدير ثورتهم للعالم العربي. وهي ملاحظة يجدر بالتقرير أن يقرّها، فهي السبب الرئيس في هذه الحرب، مع علم العرب كافة بأن تفكك العالم العربي من جديد هو ما يسعى إليه الغرب.
وكرابط آخر نوضحه هنا بين خطة "راند" وتقرير "بروكنجز" والسياقات المتوالية لمراكز البحوث والدراسات الأمريكية عن المنطقة العربية، والتي تصب في مصب واحد وهو تفتيت المنطقة بأي شكل من الأشكال، وعبر قراءات متوالية، تنتقل من خطة إلى خطة، ومن عمل إلى عمل، للوصول إلى الهدف بحيث أن " الصراعات الداخلية على السلطة تدفع الجهات المحلية الفاعلة للبحث عن حلفاء إقليميين يمكنهم تزويدهم بالمال، والسلاح، والغطاء الأيديولوجي، والدعم الدبلوماسي. تبحث هذه الجهات عن حلفاء إقليميين يشاركونها، بطريقة أو بأخرى، مواقفها السياسية والأيديولوجية، وتُشعرها ببعض القرابة لأسباب أيديولوجية أو على أساس الهوية". وأوحى التقرير إلى أن عدم تمكين إسرائيل في هذه الحرب وعرقلتها ليس من مصلحة مسيري ومؤججي هذه الفوضى في المنطقة فـ " مما لا شكّ فيه أنّ توفير الدعم المالي للحلفاء غاية في الأهمية، إلا أنه ليس كافيا للحفاظ على النفوذ. وبالتالي، إنّ الدول التي لديها الإمكانات العسكرية والمادية للهيمنة الإقليمية ولكنها تفتقر لروابط الأيديولوجيا والهوية العابرة للحدود، مثل إسرائيل، يتم عرقلتها بشدة في قدرتها على أن يكون لها تأثير على الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط". وهذه الصرخة ظهرت آثارها عام 2018م عندما بدأت إسرائيل تفرض وجودها في سوريا، وباتت عابرة للحدود، وهذا ما يسعى إليه الغرب، وما تسعى إليه الدراسة التي كُتبت من الدوحة.
الإشارة الأخطر في هذا التقرير جاءت عبر هذه الكلمات:" ظلت دول منعزلة ومهمة، مثل لبنان واليمن، ضعيفة وعرضة للتدخل الخارجي خلال فترة الوحدة العربية الممتدة بين سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، ولكنهم كانوا يقاومون توجهاً إقليمياً. إنّ العديد من الدول العربية تعاني الآن من ضعف تلك المشاريع لبناء الدولة، إن لم يكن انهيارها. إنّ هذا الإضعاف للدولة، وليس الطائفية أو بروز الأيديولوجيات الإسلامية، هو الذي خلق ساحات معارك الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط. ونظراً لمدى صعوبة إعادة بناء أنظمة سياسية مستقرة في هذه الدول، من المحتمل أن يطول أمد الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط كما طال أمد الحرب العربية الباردة." لنلحظ أن ما حدث في اليمن جاء بعد هذا التقرير أو أنه كان في إطار التكوين، وكان واضحًا للعيان خلق "الفوضى" في اليمن، التي أوقفتها "عاصفة الحزم" بدءًا من عام 2015 إلى اليوم.
وعلى الرغم من نفي التقرير بأن ما يحدث ليس طائفيًا إلا أنه يذهب إلى استغلال الطائفية، وأنه يجب العمل عليها إذ "يتطلّب فهم ديناميكيات الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط دراسة بعض الأطر البديلة التي تم طرحها لشرح المرحلة الحالية للسياسات الإقليمية الدولية. إنّ الإطار الأكثر شيوعاً هو طائفي – أي أنّ الصراع على السلطة في الشرق الأوسط اليوم، هو في الأساس، منافسة بين السنة والشيعة".
ويسعى التقرير بعد حديثه عن الطائفية إلى لفت الانتباه إلى أن من يمسك السلطة في البلاد العربية ومن يتمسك بالطائفية إنما يهدف إلى تمسكه بها، وهي عملية إيحاء تقدم للجهات الداخلية الفاعلة، والتي تحاول قلب الأنظمة الحاكمة، ويقوم على دغدغة مشاعرهم، وتحريكهم نحو استمرار الفوضى، عن طريق تأجيج الطائفية، وتثوير مؤسسات المجتمع المدني ضد أنظمتها، وهي لعبة على العالم العربي أن يستوعبها، لأن ما حدث في العراق يوضح أن القوى الدولية لن تترك أي بلد يتحكم في مصيره، ومن هنا فإن إسقاط مشاريع الدول الكبرى في المنطقة لا يتم إلا عبر عدم الالتفات للأجندة التي تضعها مراكز الدراسات الاستخبارية وسيقلص نسبة الطموحات، وسيحتاجون إلى سنوات عديدة من أجل وضع خطط واستراتيجيات جديدة، كي يصلوا إلى مشروعهم الهدّام للدول.
وينفي التقرير جاهدًا المسألة الطائفية وأنها سبب فيما حدث ويحدث في المنطقة، بحجة إن "المسلمون السنة والشيعة عاشوا في وئام لسنوات عديدة في التاريخ الإسلامي أكثر من سنوات الخصام". وأنه "لم تكن محاور الصراع في الشرق الأوسط في الماضي القريب بين السنة والشيعة. ولم تقم الحرب العربية الباردة لأسباب طائفية، بل أيديولوجية". وصحيح أنهم عاشوا لسنوات في وئام، حتى تمت زراعة الملالي في المنطقة، بعد أن رأى المنظرون ومراكز الدراسات في الغرب أن إسرائيل أو أي فعل منها سيواجه بقوة من لدن العالم الإسلامي أجمع وليس العالم العربي فقط، ولهذا زرعوا الملالي كي يقوموا بالدور الطائفي في المنطقة، والعمل عليه طوال أكثر من ثلاثة عقود، وما يحدث هو نتيجة الطائفية البحتة التي استطاعت الأجندة تحريكها في المنطقة بشكل فاضح وقاطع، وما استشهاد التقرير بالحرب الأهلية في لبنان إلا تناقض صارخ، فهو ينفي تأثير الطائفية ثم يعود ليثبتها في هذا البلد الصغير!! ويشير التقرير علانية إلى الطائفية عندما تحدث عن الأقليات الشيعية في المنطقة ودعم إيران لها، بخلاف دعمها لحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، ويقول، لقد:" قامت طهران علناً بالتقليل من أهمية الطبيعة الشيعية لنسختها الخاصة بالسياسات الإسلامية الثورية، مع التأكيد على الطبيعة الإسلامية لنموذجها، في حين لا تزال تحصد أكبر نجاحاتها في تطوير حلفاء وعمال بين الشيعة العرب."
الجميل في التقرير أنه يورد أن السعودية لم تعمل بمبدأ طائفي في سوريا ولا العراق، ولو أنها فعلت لآزرت الإخوان ولكنها لم تقم بذلك، و "لو كانت الطائفية تسيطر على صناعة السياسة السعودية، لكانت الرياض تعتبر الإخوان المسلمين حليفاً لها، إلا أن الحال ليس كذلك في مصر، العراق، أو سوريا."
وعندما يركز التقرير على ضعف الدولة في المجال السياسي ويصر على ذلك، فإن ذلك فيه دليل على إغفال المعطيات التي تسعى إلى "إضعاف" الدولة، أ, العوامل التي ساعدت على ضعف الدولة، وليرمي بهذه النقطة في وجه الدول المستهدفة، ليقول إن السبب يعود إلى ضعفكم وليس إلى إضعافكم، ولو أنه كرّس عمليات الإضعاف، وركز على أنه يجب على الغرب أن يرفع يده عن الدول العربية، وأن يساندها على عملية الإنتاج لا الاستهلاك فإنه لن يتعب كما يدعي في حماية هذه الدول أو تلك، ولكن يعلم من وضع التقرير، ومن يصنع التقارير باستمرار أن نهوض العرب إن تم فسيصبحون في صدارة العالم، ولهذا لا سبيل لهم إلا أن يبقوا في شتات، وأن تستمر "الفوضى" في المنطقة العربية.
ما أورده التقرير في حالة الكويت عندما ذكر إنها" تُعتبر دولةً ضعيفة بالنظر إلى قوتها الدولية؛ فهي غير قادرة على الدفاع عن نفسها عسكرياً ضد أي دولة مجاورة لها. إلا أنها دولة قوية من حيت العلاقة بين النظام والمجتمع. تسيطر الحكومة الكويتية بفعالية على أراضيها وتحرس حدودها. يُظهر المواطنون الكويتيون بشكل عام ولاءً للدولة الكويتية؛ ولا تشوب هويتهم ككويتيين أي انتماءات قبلية أو طائفية أو قومية عربية. لهذه الهويات الأخرى أهمية كربى لفهم كيف يترصف الكويتيون على المستوى السياسي، إلا أنها لا تتخطى الهوية الكويتية بوصفها الولاء السياسي الأساسي للمواطنين." فإنه لم يشر إلى ما وصلت إليه بعد التأجيج الطائفي في المنطقة من قبل الثورة الإيرانية، والمقاربة التي أوجدها التقرير بعد ذلك عن تصدير الثورة غير صحيحة لأنها كانت تتحدث عن فترة إعداد لها، وليس عن فترة تنفيذ، ولهذا لم تسقط دولة عربية في ذلك الزمن الذي تحدث عنه التقرير، ، إذ يستحيل عليها أن تعمل دون أن تجد دعما لها، وزراعة أذرع لها كي تتحرك في المكوّن العربي، وهو ما اتضح خلال تساقط الدول العربية فيما يسمى بـ "الربيع العربي"، والذي خُدعت فيه الشعوب العربية بمختلف أطيافها، لتظهر الثورة الإيرانية وتقول علنًا للعالم إننا سيطرنا على أربع عواصم عربية!
والقارئ للتقرير سيلحظ صداه من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي السابق أوباما الذي أشار إلى إن المشكلة في الدول العربية هي في الداخل. وهي جملة أُخذت من التقرير حين كتب صاحبه: "الدولة الضعيفة على المستوى الداخلي هي دولة ليس لحكومتها المركزية إلا سيطرة بسيطة على شعبها" ولم يعد يخفى على الشعوب العربية الآن أن السبب يكمن في التدخلات الخارجية، والمكون الداخلي سواء السياسي أو الشعبي متصالح أو كان متصالحًا مع نفسه، ولهذا كانت حالة الاستقرار في حقبة ما بعد الاستقلال إلى قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي.
ويناقض التقرير نفسه حين يقول: الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط استبقت الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط الربيع العربي بنصف قرن على الأقل، إلا أن النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة يعود إلى فترة أبعد من ذلك بكثير. حرص النظام الثوري الإيراني على فرض نموذجه الثوري في العالم العربي، إلا أن الدول القوية نسبياً أثبطت عزيمته. فقبل هذا بقليل كان يتحدث عن المسألة متعلقة في الداخل، ثم يعود هنا ليقول إن النفوذ الإيراني ومحاولة فرض نموذجه في المنطقة يعود إلى أكثر من نصف قرن. فكيف يكون هذا؟ وعلى أي شيء يدلل؟
ومما سبق وما سيلي سنلحظ أن الجهات الخارجية هي الفاعلة أكثر من الجهات الداخلية، خصوصًا فيما يتعلق حماس، والحشد الشعبي، والباسيج، والحرس الثوري، وجبهة النصرة، وداعش، وحزب الله الذي استطاع استمالة العديد من الشباب العربي لمصلحة إيران ومشروع الثورة، وقد أعلن ذلك مرارًا وتكرارًا أنه يصدر الثورة للعالم العربي، وأنه يطبق أجندة الملالي بحذافيرها في العالم العربي. والعجيب أن التقرير لا يركز كثيرًا على مسألة حزب الله إلا في حدود الدولة اللبنانية، مع العلم أن الملاحظة الأساسية هي أن بدء التحرك السعودي أو ظهور الحرب الباردة ـ كما يصنف التقرير ـ ظهر بعد مقتل الحريري الذي يمثل المكون السني، وتم اغتياله بأيادٍ تمثّل إيران.
هناك تقاطعات كثيرة بين تقرير معهد راند وهذا التقرير، فمثلاً يذكر المقرر هنا النقطة التالية:" ويكمن مفتاح النجاح في الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط في أن تتمكن قوة إقليمية من دعم العملاء غير الدوليين والحلفاء بفعالية في معاركهم السياسية الداخلية في الدول الضعيفة في العالم العربي. ولا تشكّل القوة العسكرية
لدولة ما عاملا مفيداً بالضرورة في هذه اللعبة. والدليل الأبرز على ذلك هو أن أكبر قوتين عسكريتين في المنطقة، إسرائيل وتركيا، لم تتمكنا من لعب دور فعال جدّاً في الحرب الباردة كما فعلت قطر، الدولة الأصغر حجامًا إقليميّاً من حيث القوة العسكرية التقليدية. وتتطلب الرعاية الفعالة للحلفاء الإقليميين المال والسلاح حتمًا، لكنها تتطلب أيضاً روابط أيديولوجية وسياسية تجعل العملاء المحتملين منفتحين لعلاقة مع الراعي. وهذه الروابط هي الآن أكثر أهمية من القوة العسكرية التقليدية في التأثري على مجرى السياسات الإقليمية." وهي نقاط تأتي في سياق معهد راند لتقدم خطة تنفيذية من حيث التفاعل بين المكونات السياسية من الجهات الخارجية، والذي كأنه يشير على أنه يجب إلى أن تأتي السيناريوهات بما هو في مصلحة السياسة الغربية، إن نفذت الخطط أو السيناريوهات الأربعة التي وضعها معهد راند والذي استقاها أو يعد متوالية لهذا التقرير.
والإشارة المهمة التي جعلت متوالية التقارير تتابع في إطار الطائفية من هذا التقرير ـ كقارئ للحدث قبل أربع سنوات، جاءت نحو دولة قطر التي حركت بأموالها وبالقوة الناعمة (عبر الجزيرة) الإخوان المسلمين ليكونوا عاملا داخليًا مساعدًا للأقليات من أجل تفكيك الحكومات العربية، والإخوان كما هو معروف مكون سني يعد مؤثرًا في العالم العربي، إلى أن تنبهت لهم الدول ومنها المملكة العربية السعودية التي صنفتهم ضمن الجماعات الإرهابية.
إن التحرك الداخلي الفاعل في المملكة العربية السعودية، والسعي إلى النظام وفرض الأولويات النموذجية للحياة الطبيعية، ومراقبة حقوق الإنسان، والعمل على تحسين هذا الملف بشكل واضح، مع الإصلاحات التي تتم فيها بسرعة مذهلة، ومتغيرات فاجأت العالم أجمع، وجعلته محط أنظاره، بل جعلته تحت عدسته، وتنظر إلى أنه هو الفاعل الوحيد الذي يستطيع الاستمرار في لعبة التوازن بل هو الذي يرجح هذه لكفة في العالم العربي، ويجعلها في مأمن من الجهات الخارجية الفاعلة التي تريد تفتيت المنطقة، ولهذا فإن تسليط الضوء كثيرًا والضغط الإعلامي العالمي المدروس عليها بات مكشوفًا فهي صامدة في وجه المحاولات لتفكيك الخليج العربي وما تبقى من الدل العربية، بل استطاعت تدارك الوضع وأنقذت مصر من الانهيار الكامل.
[1] تجدونها على الرابط التالي: https://www.rand.org/ar/publications.html، فقط عليكم بالبحث عنها من 2015 حتى 2017م وستجدونها ضمن الأبحاث المميزة.
[…] حمّل من هنا […]
ردحذف