الأدلجة الرقمية

لم يعد المجتمع هو المصنع الأخلاقي، بل بات الإعلام ووسائل الاتصال هي المصنع الحقيقي، وعملية استلاب الطفولة تتجلى في تهيئة المشاعر له وتسوقه نحوها سوقًا، بحيث لم يعد التأثير من المكون الصغير أو النواة وهو الأسرة، ولم يعد للبيئة مكان في التحكم بعواطف هذا الطفل، وبالتالي سيأتي في السياق المجتمع برمته ليجد نفسه لا حول له ولا قوة تجاه هذا الطفل المراهق الكهل.
الآلة الآن تتحرك بشكل خطير تجاه بناء مجتمع واحد خاوٍ من كل شيء.. لا رموز سوى ما تصدره هذه الآلة إلى هذا الصغير المتلقي، "فتتحول فتيات الليل إلى ملهمات" ويتحول "الصراخ" إلى غناء، ويصبح الكاذب والمنافق مشهورًا، وتستجيب عواطف الصغار لهكذا مسيرة يسطرها الإنسان بيديه.
ليس من كاريزما، ولا صورة في الإطار يستطيع الصغير الاتكاء عليهما، كل ما يملكه هو ساعات قليلة في مدرسته وأضعافها خلف جهازه الذي بلا مشاعر.. لن نلمس مشاعرًا في القريب، ولن ننظر نحو مشعوذٍ كنّا نرى أنه "الفقيه" الذي يشفينا، حتى لو بالوهم، وكما استشهد ايزايا برلين بمقولة تولستوي" إن الحرية وهم لا يستطيع المرء أن يعيش أو يفكر من دونه" فإن الوهم الذي تعيشه المجتمعات اليوم هو الذي يجعلها تعتقد أن حياتها الآن هي ذاهبة نحو الحرية دون أن تدرك أنها تدخل القفص بهواها، وتسير نحو نهايتها لا محالة، بل بتنا نعتقد أننا نفهم كل شيء، ونحن كل شيء، ونحن فوق كل شيء، دون أن ندرك أننا لا شيء، وأن هناك من يسيرنا إلى فضاء "الرغبات الكونية"، و"فيديوهات، الفرجة الرقمية" ترسلنا إلى القاع، وإلى فقد الإحساس، وتحفيز الغرائز، دون تحفيز العقل. ليس من نهاية للتاريخ مثلما اعتقد البعض أن فوكاياما رأى يوم القيامة بل إنه التوقف نحو الواحدية التي تريد انتاج البشرية بطريقة صناعية مذهلة، ومؤدلجة بشكل مقنن، تسعى لاكتساح العالم.



تنامي السلوك البشري البصري، المسيطر هذه الأيام، يجعل من هذه الحاسة معطلًا لبقية الحواس، وبالتالي ينسف قيمة الإنسان فينا، ويحولنا إلى آلات مستقبِلة فقط. والمسألة الأخلاقية يا سيدي تكمن في عملية الإنتاج الجمعي، فمهما أبدعت كفرد لا بد أنك تحتاج لمن حولك، ولكن الانغلاق العظيم علينا يأتي من هذا الجهاز الذي أمامي.. كم هو قاتل!!
كأنني هنا أبكي الطفولة، بينما أبكي حالنا الذي نسير!!
هل بتنا نحاصر الإنسانية اليوم؟ وهل لعبة المراقبة من ثقب التكنولوجيا باتت تقيد حركة الإنسان؟ هل هذا من أجل حرية الإنسان؟ "لقد تبين أن لعبة تحرير الإنسان كانت في واقع الأمر لعبة السيطرة"(زيجموند باومان). ليست الحرية في إعلانات كانت تقول لك أين تقضي هذا المساء؟ والتي باتت الآن من النوادر، بل إنها أصبحت اليوم تقول لك الآلة يجب أن تقضي هذا المساء في المكان الفلاني، أو أن تتجه إلى هذا الخط أو ذاك؛ فمسار خطك الزمني ينبئنا بهذا. وخارطة حياتك يجب أن تسير هكذا، وتلح عليك كي تحقق حريتك التي تطارد وراءها. السير الآن "وهم" يوحي لنا بأننا نمشي أفقيًا بينما نحن نسير عموديًا دون أن ندرك نحو حريتنا، ومثل هذا الطريق الذي يرفعك سريعًا سيهوي بك سريعًا.
أخيرًا وليس آخرًا: إن قراءة للفن التشكيلي في أوروبا مثلا من العصر الفيكتوري إلى اليوم ستوضح إلى أين تسير المجتمعات. والفن دومًا يجسّد المجتمعات ويكتبها أفضل مما يكتبها التاريخ.

اذهب إلى موضوع مرتبط