طُرحت كثيرًا مسألة انتهاء "الصحف الورقية" ونوقشت كثيرًا، على مستوى العالم وليس على مستوى المملكة فقط. وما أعجب له هو أن هذه النقاشات انصبت في إطار واحد فقط، وهو الحديث عن كيفية إنقاذ هذه الصحف، أو ما هو المخرج الذي يجب أن تتخذه كي تنقذ نفسها؟ إن الجانب الذي يجب مناقشته هو هل البديل لهذه الصحافة سيقوم بالدور الذي كانت تقوم به؟ وهل سيخدم المجتمع مثلما فعلت الصحافة الورقية؟ هل سيخدم السياسة مثلما فعل الإعلام التقليدي "البليد الآن"؟!
أجيب في التالي:
إن "الكوم" يمثل إغراء للآخر ويعطي الهيمنة والتأثير على الدوام، ولكن التقنية تقدّم الالتباس بشكل واضح، فمع "التقنية كل شيء يميل إلى البساطة أما مع البشر والمجتمعات فكل شيء يميل إلى التعقيد." (دومينيك وولتون، الإعلام ليس تواصلاً). العقدة الأخطر في التقنية هي "عدم التواصل" وفي نفس الوقت الاتصال والتأثير السريع، لا تنسوا كلمة السريع هنا، وهو تناقض مكشوف تمامًا لنا، والعملية التبادلية هي التي تحقق الرضا لدى التقني كونه يرى الإغراءات أو الهالة التي حوله، ويعتقد أنه يقدّم عملاً إعلاميًّا أو ثقافيًّا أو اقتصاديًّا أو حتى سياسيًّا، بينما هو في الحقيقة يقدم خوارزميات ولكنها سطحية لا ترتقي إلى "الفكر" بل إنها تدور في فلك الدوائر التشعبية المرتبطة بالتقنية، والمحتوى يأتي مترابطًا مع هذا التشعب، ويسعى إلى الإشباع السريع للمتلقي، ليدور في خوارزمية حتى تنتهي وينتهي دورها، ويكون التأثير هنا وقتيًّا كون الرسالة سيتبعها رسالة تُنسينا الرسالة الأولى، وركزُوا جيدًا في هذا، إذ إن الإعلام التقليدي كان يمنحنا فرصة، ويعطينا الوقت كي نتأمل ونتفحص ونحفظ الرسالة، حتى تأتي بعدها رسالة أخرى بعد فترة من الزمن، وهذا ما لا يفعله الـ "com"؛ ولهذا فإن المشكلة تبدو واضحة في أن الحاضر سرعان ما يصبح ماضيًا. ولا يعني أن 5.6 مليار إنسان يستخدمون الانترنت "أن ذلك يفضي إلى التواصل" بقدر ما يعني أننا "نختفي في قلب ما يمكن رؤيته" (زيجموند باومان، الرقابة السائلة)، بحيث أن الإنسان لا يقدّم رسالته بل إنها تختفي بمجرد رؤيتها، وبالتالي فإن التأثير ليس قياسيًّا مثلما نرى، ولكنه زمنيًّا، ويتوقف بمجرد اختفائه، وبمجرد ظهور رسالة أخرى.
كما أن "الكوم" لا تقدم خدمة للتعايش بقدر ما تفصل المجتمع عن بعضه البعض وتجعل عملية التواصل ـ مثلما قلت سابقًا ـ غير موجودة، وهذا ما يفضي إلى خلو المجتمع من الروابط الاجتماعية وانحصاره في الروابط التقنية عبر "الكوم". في هذا النموذج كنت أجلس في المقهى أحدهم يقرأ صحيفة كنت أنتظره حتى ينتهي منها فأقرأها ونبدأ بعدها في النقاش حول ما جاء فيها. الآن أجلس في مقهي يجلس صاحبي إلى جواري يقرأ في جهازه وأنا أقرأ في جهازي وكل واحد منّا لا يدري ماذا قرأ الآخر. قريبان ولكنّا بعيدان عن بعضنا بهذه الأجهزة.
بوضوح تام لا يهمني أن أتواصل مع بعيد من عالم آخر، بقدر ما يهمني أن أتواصل أولاً مع من هو إلى جانبي، وهذا هو الرمز المعياري للمجتمع الواحد، وليس الرمز المعياري للعولمة، لأنني أخدع نفسي إن نصبتها على أن تعيش في مجتمع آخر عبر "الكوم" وتعتقد أنها تعيش حياتها، بينما هي أصلاً منفصمة عن مجتمعها مما يؤدي في النهاية إلى انفصامها حتى عن المجتمعات الأخرى.
نشر في صحيفة الرياض
أجيب في التالي:
إن "الكوم" يمثل إغراء للآخر ويعطي الهيمنة والتأثير على الدوام، ولكن التقنية تقدّم الالتباس بشكل واضح، فمع "التقنية كل شيء يميل إلى البساطة أما مع البشر والمجتمعات فكل شيء يميل إلى التعقيد." (دومينيك وولتون، الإعلام ليس تواصلاً). العقدة الأخطر في التقنية هي "عدم التواصل" وفي نفس الوقت الاتصال والتأثير السريع، لا تنسوا كلمة السريع هنا، وهو تناقض مكشوف تمامًا لنا، والعملية التبادلية هي التي تحقق الرضا لدى التقني كونه يرى الإغراءات أو الهالة التي حوله، ويعتقد أنه يقدّم عملاً إعلاميًّا أو ثقافيًّا أو اقتصاديًّا أو حتى سياسيًّا، بينما هو في الحقيقة يقدم خوارزميات ولكنها سطحية لا ترتقي إلى "الفكر" بل إنها تدور في فلك الدوائر التشعبية المرتبطة بالتقنية، والمحتوى يأتي مترابطًا مع هذا التشعب، ويسعى إلى الإشباع السريع للمتلقي، ليدور في خوارزمية حتى تنتهي وينتهي دورها، ويكون التأثير هنا وقتيًّا كون الرسالة سيتبعها رسالة تُنسينا الرسالة الأولى، وركزُوا جيدًا في هذا، إذ إن الإعلام التقليدي كان يمنحنا فرصة، ويعطينا الوقت كي نتأمل ونتفحص ونحفظ الرسالة، حتى تأتي بعدها رسالة أخرى بعد فترة من الزمن، وهذا ما لا يفعله الـ "com"؛ ولهذا فإن المشكلة تبدو واضحة في أن الحاضر سرعان ما يصبح ماضيًا. ولا يعني أن 5.6 مليار إنسان يستخدمون الانترنت "أن ذلك يفضي إلى التواصل" بقدر ما يعني أننا "نختفي في قلب ما يمكن رؤيته" (زيجموند باومان، الرقابة السائلة)، بحيث أن الإنسان لا يقدّم رسالته بل إنها تختفي بمجرد رؤيتها، وبالتالي فإن التأثير ليس قياسيًّا مثلما نرى، ولكنه زمنيًّا، ويتوقف بمجرد اختفائه، وبمجرد ظهور رسالة أخرى.
كما أن "الكوم" لا تقدم خدمة للتعايش بقدر ما تفصل المجتمع عن بعضه البعض وتجعل عملية التواصل ـ مثلما قلت سابقًا ـ غير موجودة، وهذا ما يفضي إلى خلو المجتمع من الروابط الاجتماعية وانحصاره في الروابط التقنية عبر "الكوم". في هذا النموذج كنت أجلس في المقهى أحدهم يقرأ صحيفة كنت أنتظره حتى ينتهي منها فأقرأها ونبدأ بعدها في النقاش حول ما جاء فيها. الآن أجلس في مقهي يجلس صاحبي إلى جواري يقرأ في جهازه وأنا أقرأ في جهازي وكل واحد منّا لا يدري ماذا قرأ الآخر. قريبان ولكنّا بعيدان عن بعضنا بهذه الأجهزة.
بوضوح تام لا يهمني أن أتواصل مع بعيد من عالم آخر، بقدر ما يهمني أن أتواصل أولاً مع من هو إلى جانبي، وهذا هو الرمز المعياري للمجتمع الواحد، وليس الرمز المعياري للعولمة، لأنني أخدع نفسي إن نصبتها على أن تعيش في مجتمع آخر عبر "الكوم" وتعتقد أنها تعيش حياتها، بينما هي أصلاً منفصمة عن مجتمعها مما يؤدي في النهاية إلى انفصامها حتى عن المجتمعات الأخرى.
نشر في صحيفة الرياض
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك