الأحد، 8 مارس 2020

من قارئ كالفينو إلى كاتب ميللر: لا تصرخ!


 (1)
عندما قال إيتالو كالفينو" ليس لديّ وقت للملل" هل كان يوجه القارئ نحو فعل القراءة، وأنه الطريق الوحيد لعدم الملل، والقراءة هنا ليست عبر الكتاب فقط، بل تتجاوزها إلى أن تقرأ المارة، الشارع، الأشياء ممن حولك، فـ "الأفكار ملقاة في الطرقات" على مقولة الجاحظ، وطالما أن كل هذه الأفكار ملقاة أمامنا فلا وقت للملل. ولكن هل أنصت لكالفينو وهو يدعوني لأن أكون متحفزًا لقراءة رواية " لو أن مسافرًا في ليلة شتاء"؟ "لو" أنني لم أذهب معه وهو يدعوني لضبط لحظتي التي سأبدأ أقرأ فيها روايته. ولم أعمل بنصيحته.. هل سأكون قارئًا وقتها؟ أم أنني مجرد متلقٍ أعبث بوقتي أو أتسلى بقراءة على شاطئ بحر مما يدلل على أنني لست من النوع المحبذ لدى هذا الروائي، لأنه يفترض بي أن أقرأ "على سرير النوم" كدلالة على الحميمية التي بيني وبين روايته؟! هنا أقول: إن أنصتُ له فإنني لن أجد الطرقات إلا في فكره هو، وما الواقعية السحرية إلا صنع من خياله هو وليس لي من الأمر شيء.. لهذا أنصحكم لا تنصتوا له، ولكن اقرأوا له بطريقتكم لا بطريقته ففي هذا خذلان لذواتكم.
بعد هذا سآخذكم إلى رواية كالفينو أعلاه التي تقدم لكم واقعيتها السحرية، وتقدم لكم أنفسكم كقراء، ورواية "الوشيجة" لهنري ميللر الذي يقدم لكم الكاتب، وكنت أتمنى أن أقدم لكم "كائن لا تحتمل خفته" والذي يقدم فيها كونديرا الشاعر والفنان، ولكن خوفًا من الإطالة آثرت أن أكتب عن القارئ والكاتب في الروايتين، إذ أنني أزعم أن لديّ همًّا نحو المتلقي الذي هو الجمهور؛ أي بطبيعة الحال هو القارئ، ولعله يأتي وقت أجمع بين الأربعة في أكثر من رواية، أعني القارئ والكاتب والشاعر والفنان.


هنري ميللر يقول:" إن الكاتب كالقرد الكسلان، يتعلق بأطرافه، بينما تجيش الحياة وتضطرب تحته على نحو متسارع.(الوشيجة، ميللر،355)، تخيّلوا التناقض الكامل هنا بينه وبين كالفينو؛ أي بين الكاتب والقارئ، ففي الوقت الذي يتمتع فيه هذا الكالفينو بكسله، ولهذا "لا ملل لديه" لأنه يستمتع بهذا الكسل وليس يستمتع بالقراءة، إذ ربما إنه مثل ابن جلدته الروائي الفيلسوف إمبرتو إيكو الذي يقول، في إجابة على سؤال هل قرأت لفلان:" أتعرف؟ أنا لا أقرأ وإنما أكتب"؛ فإنه يدعوني إلى التركيز والاحتشاد وغلق الأبواب بل عليّ أن استنفر وأصرخ في كل من في البيت " إنني أبدأ قراءة قصة لإيتالو كالفينو!. 19" ولا بدّ أن أكون في وضع مريح كي أقرأه، أو كي أكون قارئًا، كأنه بورجوازي عندما يعتقد أنني أملك كرسيًّا هزازًا، أو كرسي شاطئ، أو لدي أرجوحة في حديقة قصري، أو أمتلك حصانًا، كي أضع الكتاب على منضدة وضوء "الأباجورة" يجب أن يكون مسلطًا على الكتاب.. وماذا؟ هل تعتقد أن الفانتازيا ستحيلني إلى قارئ جيد وأنا رافع قدمي نحو السماء؟!  وهنا لا أعتقد أن العرب كانت تقرأ بصمت، وتدعو من حولها بأن يصمتوا كي يقرأوا، ولم يكونوا يا إيكو يكتبون، ولا يحبذون الكتابة بل كانوا يلتقطون ما تقوله الأفواه ويسجلونه في الذاكرة ويطوفون به كل البلاد! إذن لا داعي لأن أصرخ "إنما أنا أكتب"!
نعم ومع "كالفينو" هناك كتب يخطط القارئ لقراءتها، وأخرى تطارده بلا نجاح في قراءتها، وثالثة تشغل اللحظة، ورابعة تريد أن تقتنيها، وخامسة ستقرأها في الصيف، وسادسة مجرد شكل تصطف على أرفف على مكتبتك. وطبعًا الحيرة ستكون أحد الخطايا التي يرتكبها القارئ، ولهذا فإن "الكتاب الصادر لتوه، سيستحوذ على الجدة في اللحظة الأولى.24" وسيكون من المفيد أن تقتنيه لأنك ستقرأه لحداثته. ومن هنا فإن كالفينو يوجه في الفصل الأول للقراءة وينقد في نفس الوقت القارئ، من ذلك:
ـ اقرأ الكتاب الجديد الصادر للتو.
ـ احترم الكتاب ولا تزج به بين أوراق عملك.
ـ اكبح جماح نفسك واقرأ في عزلة في البيت.
ـ دع عنك حجم الكتاب وابدأ القراءة من الصفحة الأولى واترك الصفحة الأخيرة!
ـ تقلبات المؤلف لا تدركها كونك قرأت له كتابًا سابقًا.
ـ الكتاب الممل في بدايته قد يكون ممتعًا لو تأملته جيدًا.   
يتبع...        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك