13ـ لا أحد يقرأ
(سيأتي زمن يعتبر كل قارئ نفسه قارئًا
مثاليًّا) الكاتب الأرجنتيني البرتو ما نغويل
هل لي الآن أن أصرخ وأقول: لا أحد
يقرأ؟ وما هو شكل القراءة لو قلت هذا؟ هل " على المرء أن يكون مخترعًا كي
يقرأ جيدًا؟" على مقولة (رالف والدو إيمرسون)، لقد لاحظت أن ماريو يوسا في قصة
لهمنجواي عنوانها القتلة يقول:" لماذا يريد المجرمان اللذان يدخلان، ومعهما
بندقيتان قصيرتان، إلى مطعم هنري الصغير، في تلك البلدة غير المسماة، أن يقتلا
السويدي أندرسون؟ ولماذا يرفض أندرسون الغامض الهرب أو إبلاغ الشرطة، عندما ينبهه
الشاب نك آدامز أن هناك قاتلين يبحثان عنه لقتله، ويستسلم بقدرية لمصيره؟ يرد على
أسئلته بـ "لن نعرف أبدًا" وإذا أردنا أن نعرف الجواب عن هذين السؤالين الحاسمين
في القصة، علينا أن نخترعهما بأنفسنا نحن القراء، انطلاقًا من المعطيات الضئيلة
التي يوفرها لنا الراوي - كلي المعرفة" (رسائل إلى روائي شاب، ماريو يوسا،
107-108).
نحن لا نخترع.. إذًا نحن لا نقرأ! نحن لا نملأ
الفراغات إذًا نحن لا نقرأ، فليس من الحكمة أن تقرأ مقدمة كتاب، والفهرست ثم تقول
أنا قرأت، وليس من الاختراع في شيء أن تقرأ ملخصات عبر المجلات والصحف عن الكتب
وتحفظ أسماء أصحابها وتقول أنا قرأت، عليك أن تملأ الفراغات إن كنت صادقًا وقرأت،
وإن لم تملأ الفراغات فلست بقارئ ولن تخترع شيئًا، كأن هذه الجملة تخبرنا أننا
لسنا قراءً ولا نجيد القراءة، لعدم ربطنا للأحداث، أو كوننا نغفل كثيرًا أثناء
قراءتنا، أو أننا نقرأ لمجرد القراءة، ولا نريد أن نتعب أنفسنا في "ملء الفراغات"
مثلما فعل يوسا في قصة همنجواي. ولأننا لا نخترع بعدها شيئًا، ولا نؤلف عنها
شيئًا، بينما ما يسطع في ذهن القارئ المثالي يختلف عن الذهن الخالي الذي يقرأ
لمجرد التسلية، وأحيانًا القراءة تسلية، (سيأتي بعد هذا في "14" تصنيفات
القرّاء) وعبرها نستشف حياتنا حتى عن طريق هذه التسلية ولكنها في غالبها ليست مزحة
هذه الحياة أو تسلية بل إن وراءها شيء أكبر من هذا، فالتسلية جزء منها وهو يسير،
ولكن ما تفرضه القراءة في الحالات الجادة هو أن نصل إلى مرحلة المثالية في القراءة
و "القارئ المثالي هو:
ـ تمامًا الكاتب قبل أن تتجمع الكلمات
على الصفحة.
ـ القارئ المثالي وُجد في اللحظة التي
تسبق الإبداع.
ـ القراء المثاليون لا يعيدون بناء
قصة: إنهم يعيدون خلقها.
ـ القراء المثاليون لا يتبعون قصة:
إنهم يشاركون بها." (البرتو مانغويل، فن القراءة. ص229) ولهذا إن تحوّل
القراء كلهم إلى مثاليين فأعتقد أن لا أحد سيقرأ بعدها لأنهم سيتحولون إلى منتجين،
وعلينا وقتها أن نتعاطف مع فرجينيا وولف وهي تقول: " إنه ليسعدني أن أتفق في
الرأي مع القارئ العادي، فإدراك القارئ الفطري ـ الذي لم يفسده التحيّز الأدبي
المكتسب بالمهارات الرفيعة، والتعصب العلمي ـ يجب أن يكون هو القول الفصل"
(القارئ العادي، فرجينيا وولف.7) ، وأن نكتب وفي أذهاننا القراء العاديون، الذين
يتجاوبون مع فطرتهم وليس مع مكتسباتهم المعرفية، وأن لا نغالي كمغالاة المدرسة
الألمانية، ونُفرط في رسم ذهنية القارئ وتلقيه لما نكتب، أو تخيلنا لنظرية التلقي
ثم نشرع في الكتابة، وهي مفيدة للكاتب ولكن للقارئ لا تقدم شيئًا. وعندما يعتقد
المثقفون أنهم وصلوا إلى درجة المنتجين فإنهم لن يقرأوا إلا لأنفسهم، وكأن
المثقفين لدينا بلغوا هذه المرحلة التي لا يقرأون إلا لأنفسهم، وكأني بعمر أبو
ريشة وهو يقول:
امضي لشأنك.. اسكتي
أنا واحد من هؤلاء!
أي لا أستطيع استثناء نفسي عندما أعتقد
أنني وصلت إلى مرحلة الانتقائية فيما أقرأ، وتحديدًا سأضيف للمدرسة الألمانية
المسألة "الانتقائية" التي لم تتحدث عنها.
والإنتقائيون في تصوري يقعون في
التالي:
ـ يحددون أسماء لا يقرأون إلا لها.
ـ يحددون عناوين يقرأونها دون غيرها.
ـ يحددون فصولا تسير بهم نحو أفكارهم.
ـ يصلون إلى مستوى تأطير أفكارهم دون
الشعور بذلك.
ـ يرسمون تبعيتهم بناء على تحديداتهم
السابقة.
ويجب أن تدخل "الانتقائية"
ضمن التصنيفات التي أفرزتها، ففي وقت مضى كنت أقرأ دون أن أعرف اسم المؤلف، لأنني
لا أحب أن التزم باسم محدّد، ولكن الأكاديميون كانوا يخطئوني دومًا عندما استشهد
بمقولات لا أعرف اسم كاتبها، فانحرفت عن هذا المنهج إلى منهج تحديد الأسماء،
وشيئًا فشيئًا باتت الأسماء محدّدة، وكأنني أرى أن فعل الكتابة يجب ألا يمارسه إلا
هؤلاء المحددين. لو كنت قارئًا عاديًّا كما كنت لما أطّرت قراءاتي في أسماء قد لا
تضيف جديدًا، أي بت جزءً من فريق لا يقرأ، إنما ينتقي ما يقرأ، وفي هذا خطأ ذهني
لأنه يؤطر أفكاري لتندمج مع هؤلاء المحددين وأصبح مثلهم، لأقع في شبهة القارئ
التابع وليس القارئ المثالي دون أن أشعر بذلك.. يا لي من حكيم استوعب هذه الفكرة
بعد أن بلغ من العمر عتيّا، وعليكم أن تلتفتوا إلى هذه النقطة فهي خطيرة في مسار
القارئ/الكاتب. وقد أُصنّف هنا ضمن خانة "لا أحد يقرأ"!
ولكن، دعوني ألخص لكم لكن هذه التي
نستثني بها حياتنا، متى أردنا الخروج من مأزق ما؛ هناك مقولة لفلوبير، يقول فيها:
" لو كان على رجل أن يقرأ عشرة كتب باهتمام كافٍ، سوف يصبح من الحكماء"
كأنه يوجه هذا لي بسخرية، لأن الانتقائية التي أدعيها غير صحيحة، فلو أنني قرأت
عشرة كتبِ باهتمام لكنت حكيمًا، ولما احتجت لمكتبتي التي تملأ الجدران، وكأنني
أتباهى بها، وأسعى إلى إثبات أنني "دودة كتب" دون أن أكون كدودة القز،
ودون أن أصل إلى مستوى الاهتمام بعدد قليل من هذه الكتب كي أصبح حكيمًا. ولم أكن
في حكمة الكاتب التركي باموك الذي أزال من مكتبته بعض الكتب التي قرأها لكتاب
مرموقين في شبابه، والذين أسماهم بـ"كتاب أمتنا"، لم يكن ذلك بسبب
الزلزال الذي ضرب منطقته، ولكن لأن" المؤلفين الذين اشتريت كتبهم في شبابي،
واحتفظت بها وأحيانًا حتى قرأتها، لأنهم كانوا كتاب أمتنا، وحتى قليل من الكتاب
الذين قرأت لهم في السنوات التالية تواطئوا في السنوات الأخيرة لجمع دليل حول مدى
سوء كتبي"(ألوان أخرى، أورهان باموك. 128) ليأتي سبب آخر ويقول: سنكره قراءة
من يكتبون عن سوء كتابتنا، فمعنى أن تنقد ما أكتب، حتى ولو كنت موضوعيًا في نقدك
فلن أتقبلك ككاتب، وسنزيل كتبك من مكتبتي، وسنزيلهم من حياتنا، وعندها ستكون
انتقائيتنا هي المسيطرة، وخصوصًا في مثل عمرنا هذا، الذي يستحيل معه أن نغير من
أسلوبنا إلا القليل!
في صورة اهتزاز القارئ سابقًا كنت أمشط
شعر غانية من الغرب، وقدمت قراءة موازية هنا فيها غزل مفضوح بما ينتجه الآخر،
وذهبت إلى ميلر ومن هم على شاكلته، ولكني لم أطأ أرضي، وهذا اعتراف منّي بخمولي
مثلي مثلكم. ولكن الحكمة ليست في جمال أرضنا، وليس في أن أقرأ ما أكتبه أنا، لأنني
أعرف أرضي وأعرف جمالها، الحكمة تكمن في أن نعكس هذا للآخر، ومن هنا فإن اهتزاز
الصورة وبروز "لا أحد يقرأ" يكمن في كيفية الوصول، ولهذا تأتي التعاسة
من انعزالنا عن الآخر، على الرغم من أن أبنائنا وصلوا إلى عمق الغرب، ولكنهم لا
يملكون هذا البعد الذي أتحدث عنه، بحيث أنهم يقدمون صورة للقارئ الواعي الذي يسكن
في دواخلنا، والذي يعكس جمال أشجارنا التي لا تعيش إلا في درجة حرارة عالية، والتي
تكتسب بعدًا لا يراه الآخر وهو أنها دومًا في حالة ظمأ، هذا الظمأ الذي لم نستطع
إرواؤه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك