الثلاثاء، 1 فبراير 2022

رواية السعودي محمد عبد الله الغامدي بين سقف القرية وقاع المدينة

 28-01-2022 | 21:48 المصدر: بيروت- النهار العربي

سلمان زين الدين

لعلّ الإشكالية الأولى التي يطرحها نص “سقف القرية… قاع المدينة” للكاتب السعودي محمد عبدالله الغامدي (مؤسسة الانتشار العربي والنادي الأدبي) في منطقة الباحة هي إشكالية التجنيس.

في حين نقرأ جنس “رواية” على الغلاف، نجد أن النص لا يتعدّى السبعين صفحة، ما يفارق بين جنس النص ومساحته، فالتجنيس المقترح أكبر من جنسه، والمساحة المنجزة أصغر من رواية. وعليه، ليس النص برواية طويلة ولا هو بقصة قصيرة، بل هو جنسٌ هجين، يتموضع في منزلة بين منزلتي القِصَر والطول، ويسمّى بالنوفيلّا المعادلة للقصة الطويلة أو الرواية القصيرة.




إنه جنسٌ أدبيٌّ عرفه الأدب العالمي في نصوص “الغريب” لألبير كامو و”مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل و”المسخ” لفرانتس كافكا، “الشيخ والبحر” لآرنست همنغواي، وعرفه الأدب العربي في نصوص “رجال في الشمس” لغسان كنفاني و”الطوق والأسطورة” ليحيى الطاهر عبدالله و”أهل الهوى” لهدى بركات، على سبيل المثل لا الحصر.

على أن مسألة التجنيس لا تتعلّق بالكم وحده، بل تتعدّاه إلى النوع، فالنوفيلّا غالباً ما تتمحور حول شخصية واحدة تتعالق مع شخوص هامشية مكمّلة لها، تدور أحداثها البسيطة في فضاء مكاني محدّد، وتحصل في فضاء زمني قصير، ما ينطبق على “سقف القرية… قاع المدينة” بامتياز.

العتبة والنص

في العنوان، يقوم “سقف القرية… قاع المدينة” على تضادّ مزدوج، مكاني خاص بين مفردتي “سقف” و”قاع”، ومكاني عام بين مفردتي “القرية” و”المدينة”، وينطوي على مقابلة بين مركّبين إضافيين هما “سقف القرية” و”قاع المدينة”، ويشي بعلوّ المركّب الأول على الثاني.

وفي المتن، يتمحور النص حول ثنائية زمكانية هي زمن القرية / زمن المدينة التي يندرج تحتها عددٌ كبير من الثنائيات، المكانية والزمنية والبشرية والقِيَمية، في تناغمٍ محسوب، وبذلك، تشكّل عتبة العنوان المكانية مفتاحاً إلى نصٍّ زمني، فتشاكل العتبة النص في المضمون، وتفارقها في النوع.

تحولات اجتماعية

يرصد الغامدي في نوفيلّاه تحولات الحياة الاجتماعية في العالم المرجعي الذي تحيل إليه، والمفارق أنه يفعل ذلك بمفردات الموت، فيتخذ من ثلاث جنازات يحضرها مداخل لرصد تحولات الحياة، ويجعل من طقوس المشاركة فيها مؤشرات يقيس بها درجة التحول.

وتشكّل الجنازات الثلاثة تعبيرات عن ثلاث مراحل، تبدأ بسقف القرية وتنتهي بقاع المدينة. لذلك، نراه يستهل نصه بجملة “مررت في حياتي بثلاث جنائز أتذكّرها جيّداً” (ص 9)، وهو استهلال بارع يثير فضول المتلقي منذ الجملة الأولى، فيتساءل: ما هي هذه الجنازات؟ ولماذا تقتصر على ثلاث؟ ولماذا يتذكّرها الراوي جيّداً؟ وهو ما تجيب عنه هذه العجالة.

سقف القرية

الجنازة الأولى تعادل “سقف القرية”، وتعبّر عنها في أوج قرويّتها، وتعكس منظومة قيم متقدّمة، وهي جنازة الجدّة التي يحضرها الراوي في التاسعة من العمر، في قريته الواقعة جنوب جدّة، ويتجلّى فيها التضامن القروي بأبهى صوره، فيشارك الجميع في الحزن والبكاء والرثاء والدعاء وحمل الجثمان وحفر القبر والدفن وتقبّل التعازي، فتبدو الجدة فقيدة كل بيت، ويبدو الجميع أهل الفقيدة.

هذه الواقعة التي تحفر عميقاً في ذاكرة الراوي يستعيدها في مرحلة متأخرة من العمر ليحقق هدفين اثنين يرتبط أحدهما بالآخر؛ الأول استعادة سلّم قيم اجتماعي جميل، تشكّل البساطة والطَّبَعِيَّة والفطرة والصدق والثقة والمحبة والمشاركة والتضامن والكرم درجاته الجميلة. والثاني رصد التحولات الحادة التي طرأت على هذا السلّم بفعل تدخل عنصر خارجي عليه، يتمثّل في بعض المتشدّدين الذين راحوا يخترعون المعايير والمقاييس ويحولونها إلى قوانين صارمة، يكفّرون من تسوّل له نفسه الخروج عليها، ويوعدونه بالويل والثبور وعظائم الأمور، الأمر الذي أحدث انقلاباً في سلّم القيم في منطقة الجنوب، “وأغرقها في التشدّد الديني، وجعل الشك يدخل في قلب القرية، وحوّلها إلى حالة من البيوتات المغلقة، التي لا تؤمن بالتراحم ولا التقارب ولا الفطرة، وجعل المرأة تنغلق على نفسها، مع تأييد من الرجل الذي أحكم السيطرة على الفطرة في النساء” (ص 15).

وهكذا، شكّلت الجنازة الأولى في وقتها تعبيراً عن مرحلة اجتماعية قروية تُعلي الروح على المادة، والإنسان على الآلة، والقرية على المدينة.

ما بين السقف والقاع

الجنازة الثانية تعادل مرحلة اجتماعية وسطى ما بين “سقف القرية” و”قاع المدينة”، وتعبّر عن صيرورة القرية في طريق “التمدّن”، وتعكس منظومة قيم لا هي بالقروية ولا هي بالمدينية، وهي جنازة العم التي يحضرها الراوي شاباًّ في جدة. وتحفّ بهذه الواقعة الرئيسة وقائع فرعية دالّة تعكس طبيعة التحولات ودرجتها، في الثمانينات من القرن الماضي.

فالمستشفى يطيل مدة إقامة العم الميّت دماغياًّ توخّياً لكسب المزيد من المال، والراوي تتبلّد أحاسيسه في مواجهة الموت، والميّت يُدفَن في مقبرة عامة دون شاهدة قبر، وأبناء الفقيد يُمنَع عليهم التواجد مع بناته في مكان الجنازة، والشاب الأرعن المليونير يتوسّط مجلس الجنازة بينما يجلس الحكيم الفقير في طرفه. هذه الوقائع، إن دلّت على شيء، إنما تدلّ على تقدَم المادة على الحكمة، والعزل على الاختلاط، والمدينة على القرية في سلّم القيم الانتقالي.

وتعكس درجة التحوّلات الآخذة في النمو، بالتزامن مع واقعة تاريخية عامة خطيرة تمثّلت في اقتحام أحد المتشدّدين الحرم المكّي زاعماً أنه المهدي المنتظر في العام 1979، فيشكّل التاريخي إطاراً للاجتماعي. هنا أيضاً، يتخذ الراوي من واقعة موت العم ذريعة للمقارنة بين الأمس واليوم، فينخرط معه في حوار متأخر من طرف واحد، يفضي فيه بما يقلقه من تحوّلات، ويقول له في موته ما لم يقله في حياته، فيتحوّل الموت إلى مناسبة للتعبير عن الحياة

قاع المدينة

الجنازة الثالثة تعادل “قاع المدينة”، وفيها تبلغ التحوّلات دَرْكَها الأسفل، فتسقط القرية في براثن المدينة، ويحصل انقلاب في سلّم القيم القروية، وهي جنازة التاجر الغني أبي سعد، ابن القرية المقيم في المدينة، الذي لم تطفئ إقامته الطويلة فيها حنينه إلى القرية وزمنها.

لذلك، يوصي زوجته أن تدفنه في مقبرة القرية “القريبة من السماء” لا في مقبرة المدينة “التي تسطو عليها العمائر من كل جانب” (ص 50)، حتى إذا ما تمّ تنفيذ الوصية، تبرز مجموعة من الوقائع تعبّر عن سقوط القرية المريع في قاع المدينة، فتتحوّل جنازة أبي سعد إلى جنازة القرية نفسها، لذلك، يسأل الغامدي، على لسان الراوي، في نهاية النص: “هل ستشرق الشمس على القرية مرة أخرى بعد هذا؟” (ص 78)، وهو تساؤل يضمر الجواب بموت القرية.

ولعلّ الوقائع الفرعية التي اطلع عليها الراوي هي التي حدت به إلى طرح هذا السؤال/ الجواب؛ فتسوير المقبرة بما يحجبها عن العيون، وتداخل أصوات المشيّعين، وعقد الصفقات التجارية على المقبرة، وفرح أبناء الفقيد بموته، وشجار الأسرة على إرثه، وإطلاق التقوّلات خلال التشييع، وغيرها، هي وقائع دالّة تعكس الانقلاب في منظومة القيم القروية وتحَلُّلها لمصلحة منظومة مدينية مختلفة، وتبيّن عمق القاع الذي سقطت فيه الأخلاق، وتكرّس موت القرية بالتزامن مع موت أبي سعد، فالجنازة الثالثة هي جنازة القرية بامتياز.

في “سقف القرية… قاع المدينة”، يصدّر محمد عبدالله الغامدي عن منظور روائي منحاز للقرية وقيمها، وينخرط في مقارنات وموازنات كثيرة تصب في موضوع انحيازه، ويحنّ إلى زمن جميل تصرّم وانقضى، ويتطلّع إلى استعادة الروح. وهو يتوخّى الموضوعية حين لا يعميه انحيازه عن رؤية مثالب القرية وسلبياتها، لكنّه يجانبها حين لا يرى في المدينة أية إيجابيات. وفي الحالتين، نحن إزاء نوفيلاّ رشيقة، أنيقة، لا يمكن للقراءة عنها أن تُغني عن قراءتها.
ــــــــــ
صحيفة النهار: https://www.annaharar.com/arabic/culture/books-authors/28012022080056594

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك