(3)
"السعادة صورة والمستقبل صورة أخرى. ثم يصبح الواقع بعد ذلك زائدًا" (الموجز في الإهانة 29) وصناعة صورة السعادة تأتي مشوهةً لأنها قائمة على الاستهلاك فقط، ورغم أن الجماهير ليس لديها ذاكرة فهي تنسى سريعًا، ورغم أنه "ليس لها سمعة تاريخية وسجل سلوكها ـ كما يصفه كولمان وكارين ـ تحكمه سلسلة من الصور السيئة؛ إلا أنها تحاول الخروج من أزماتها متى ما استوطنت فيها. وليس صحيحًا ما ذهب إليه الكاتبان في "الإعلام والجمهور" من أن "الجماهير يتم وصفها بأنها أساس ثابت للوحشية وللطبائع المدمرة والعنيفة" لأنها في الأصل تستقبل الصور التي ترد إليها، أو تمتلك الادعاءات التي تسيّرها، لأنها حالة من الجمعية، ولم تستطع الصورة فصلها عن هذه الحالة إلى الآن، رغم التكثيف الكبير لهذه الصناعة المقننة نحو الاستهلاك. وهم في هذه الحالة يأتون على تعبير جوستاف لوبون " حائز على نوع من التفكير الجماعي، يجعلهم يشعرون، ويفكرون، ويتصرفون بطريقة مختلفة تمامًا عن تلك التي يشعر، ويفكر، ويتصرف بها كل واحد منهم عندما يكون في حالة من العزلة." ,وبالتالي إن كانت الجماهير حالة من الوحشية والعنف، أو تقديس الأشخاص؛ فإن ذلك يأتي حسب الرسالة التي تصله.
إن الجمهور شكل لكيان غير محدد، تُرسل إليه الرسائل التواصلية الموجهة نحو العالمية" (كلايف بارنيت) هنا تحوّل في التعريف، وتحوّل في الرسالة ذاتها. أسلوب التعريف ينزلق نحو "الحداثة السائلة" فأن تتحدث إلى غرباء في الفضاء المفتوح، وتذهب نحو العالمية، فمعنى ذلك لا بد أن تغير خطابك!! "وارنر" يقول "إن أي نداء يوجه للجماهير يجب أن يكون موجهًا إلى غرباء، دون الإشارة إلى شخص معين. "نحن" بتنا غرباء في مفهوم وارنر، مثلنا مثل غيرنا، وهكذا يجب أن تؤخذ الرسالة كي تصل إلى العالمية، وكي نؤكد على أن الرسالة هي التي تسوق الجمهور نحو أهدافها، ولكنه لا تسوقه نحو أهدافه هو، ولا تريد له أن يفكر عند عزلته، ويحرّك عقله!!
إن خطاب الجمهور هو خطاب من المنبر إلى الشارع، حيث توجّه الكلمات إلى كل من يمر في الشارع أكثر من توجيهها إلى نادي النبلاء، الذي يعرف كل واحد منهم الآخر. وإن التفكير في الجمهور كمنتج للدورة الاجتماعية يساعد في مواجهة أفكار الجمهور ككيان موجود مسبقًا، ينتظر أن يتم اكتشافه. إنه يمكننا من التفكير في الجمهور كوجود إعلامي يظهر ويتوقف عن الظهور، ويعيد تشكيل نفسه من جديد، ردًّا على مجموعة متنوعة من الرسائل التي تُوجه إليه. والجمهور عرضة لأن يتلاعب به خطباء الإثارة الجماهيرية، كما أنه غير قادر على التمييز بين الخيال الجماعي، والحقيقة.
ومما سبق نلحظ أن عملية عزل الفرد عن طريق دمجه في الجمع، وهذا محور يحتاج إلى تكنيكٍ عالٍ جدًّا، ويرتبط بكاريزما مرسومة بعناية فائقة من قبل المرسِل، وهو المهم في صناعة الصورة الآن، لأنه سيسهل اصطياده، وسيتم تقييده وفق الرسائل التي تصله، وفي نفس السياق يمكن تسييره وفق "دائرة" صغيرة تملي عليه ما تريد، وفي كلا الحالتين فإن الجمهور هو: العملية المستهدفة من قبل الساسة ومن في حكمهم. وهو بالتالي يجب أن ينصب في أحد الخانات الأربع التالية:
الحشد المتخيّل: يعمل ضوضاء.
الجمهور: متأثر بالدعاية الإعلامية.
المشاهد: داعم للدعاية الإعلامية.
الدعاية الإعلامية: التأثيرات الكامنة.
[caption id="attachment_1987" align="alignnone" width="266"]

وتتحدد هنا شخصية الجمهور، في الحشود، ليس بحضوره الجسماني، ولكن بحضوره الجمعي. كأن الحشود والجماهير مجرد ادعاء، عبر العرض الرمزي لهم، أو التمثيل الحاشد. لا شيء يستقطب سوى الحاجة الفردية، لتكوّن حالة رأي عام.
الجمهور.. الحيز غير المرئي (2)
الجمهور.. الحيز غير المرئي