لا تحتفظ بذاكرتك وأنت تسير في شارع الأمير سلطان أو شارع التحلية في جدة، عليك أن تنسى أن لديك ذاكرة، لأنك إن تذكرت شوارع حي القويزة أو الجامعة ستصاب هذه الذاكرة فوراً، وسيتكون لديك مرض ريجان ( باركنسون )..عليك أن تسير وأنت في خط أفقي واحد، لا تجعله تصاعدياً، إن فعلت هذا فتحمل عواقب فكرتك هذه.وأنا أسير في أحد شوارع " قويزة" بعد ذلك الأربعاء الأسود تذكرت حالتي وأنا أعشق تلك البنت أيام الجامعة والتي تقطن هذا الحي ، وأعدت حبلا كنت اعتقدت أنني أنسيته ولكنها حبال الماء التي تنقطع مع القحط وتعود مع هطول المطر.. فعندما صدتني في المرة الأخيرة وقالت إن أهلها سيزوجونها بالقوة ولا تستطيع الإنتظار حتى تخرجي من الجامعة دعوت على أهلها بسيل جارف، وها هو السيل يأتي بعد سنوات طويلة من الحياة والنسيان.. كنت يومها أنظر إلى عصر كورنوس الذهبي حيث أخرجت الأرض أثقالها، وعاش البشر في نعيم إلى أن بدأ عصره الفضي فانطلق وقت العمل والكد، وصنع الفصول الأربعة وجعل الناس تبني البيوت إلى أن تقاتل البشر على ذلك عندما تعلموا صنعة السلاح.
ومن علمهم صنعة السلاح سوى بروميثيوس ابن كبير الآلهة ( زوس ) بعد أن سرق النار ووهبها لهم:
" هيا لنمنح هؤلاء القوم المساكين نعمة النار المباركة..فبواسطتها لن يخافوا البرد..وبواسطتها يمكن لهم أن يصنعوا أسلحة وأدوات.."كان عطوفا هذا البرومثيوس، ولكنه أغضب الآلهة عليه، فكيف تمنحهم هذه النعمة، وكيف تساويهم بالآلهة.. ولماذا لا يعيشون في بطون الأودية فهم في النهاية بشر، ولماذا يتمتعون بالنور وهم أصلا من أهل الظلام؟
إن هذه الحكاية لا تتوقف على شوارع فخمة وشوارع أقل فخامة وشوارع ليست شوارع.ولكنها اتجهت إلى بروميثيوس فهم يقولون إنه سرق أحد الصكوك وجعله منحة لهؤلاء البشر مما أغضب زوس ولكنه لم يعاقبه كما فعل حين سرق النار، واستطاعت عشتار بتأثيرها أن تستعطف كبير الآلهة فلا ينبغي لنا أن نلوم بروميثيوس ولا الوادي ولا السيل ولا أحد الآلهة فلا ذنب لهم
" عار على الأمير بعل، عار على راكب الغمام. أسيرك الأمير يم، أسيرك القاضي نهر.." تتوسل إليه ألا يقتلهما وأن يأسرهما فالذنب ليس ذنبهما لا السيل الجارف " القاضي" ولا الأمير "اليم" الذي يلتهم النهر في النهاية!.
وأليس الوادي وأهل الوادي لا ذنب لهم سوى أنهم يريدون مأوى يتزاوجون فيه ويريحون أولادهم من رمضاء شوارع جدة؟ حتى باتت معشوقة المراهقة حسب اعتقادي من" الدانايديس" إذ أنهم طوال عمرهم في غرف الدلاء لملء الوعاء الذي لا يمتلئ في حياتهم، فكلما صبوا فيه قال لهم هل من مزيد، وهكذا تمضي حياتهم في شقاء دون أن يصلوا لمبتغاهم. وعلى هذا الشقاء جاء السيل ليصب غضبته عليهم. لتنتشر حاملات الدلاء في هذين الحيين، وتولول النساء وهن يحاولن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ولد أو بلد.
والعجيب في أسطورة " بعل " وأنا أتأملها أثناء سيري في شوارع " قويزة" هو قول المسكين بعل لعنات :
" لا بيت لبعل كما للآلهةلامسكن كما لبني أشيرة،لا منزل كما لأيل، لا مقام كما لأشيرة ربة البحرأو مسكن كما لفدرية بنت الندىلا مظلة كما لطلية بنت الضباب"قطعا ستهدهد عنات القوية أيل ليمنحه منحة صغيرة.. كيف لا؟ وهي ابنته المدللة.. ورغم هذا لم يرضخ ايل إلا بعد أن تدخلت، قوة مؤثرة، أشيرة زوجته.. وأمامها لا يمكن إلا أن يوافق. فقد يبني له بيتاً أو قصرا أو يشتري جزيرة في المحيط، وربما تصنع له مخططا من الأراضي في مكان هو من يحدده، فهذا الإله الصغير يستحق العيش كغيره من الآلهة الصغار المنعمين.
وهكذا يستطيع هذا الإله الصغير بناء بيت له، ولكنه ليس مثل بيوتات "قويزة" أو " الجامعة" المصنوعة من الطوب والأخشاب فقط، وليست في مساحة ضيقة في وسط واد بل مصنوعة من ذهب ولازورد وفضة وحجارة كريمة، وأكيد أن قصره سيكون على تلة مرتفعة في أرض كبيرة على مد البصر.
ممشاي هذا عبر الذاكرة أعادني إلى عصر كرونوس فلكل بداية نهاية وهكذا في أسطورة بعل وغيره من الآلهة الذين كانوا يملأون الدنيا بالفوضى أو كانوا يملأون العالم العلوي بما يملكون من زمرد وذهب وجواهر نفيسة وسطوة عقارية ومالية.. فحين أراد بعل ترويض "موت" لم يستطع.. من يقهر الموت " شفة في الأرض، وشفة في السماء".. لا أحد يستطيع "الموت واسع وكبير"..
ذعن بعل لموت أخيرا ونزل إليه مرغما:
" خذ سحبك،رياحك، دلاءك، ومطرك.... وانزل إلى عمق الأرض، فتحسب مع الأموات"كأنه لم يستطع الخروج من " موت" ولكنه من خبثه يجامع "يحب" بقرة في ساحل الممات " يجامعها سبع مرات سبعين، يعلوها ثمان مرات ثمانين.. فتحبل منه وتلد ذكرا". هكذا فعلتها يا بعل تريد أن تبقي الآلهة الصغيرة على الأرض ولا تريد لسلالتك أن تنقرض.. استرقت خلسة ولداً على ساحل الممات، كي تبقي سطوتك على الأرض، ليقاسي البشر حتى قيام الساعة.. هكذا يجب أن تكون الأساطير التي ننحتها في ذاكرتنا عبر الأجيال، وهكذا يجب أن تكون قصص الحب الرومانسية التي تنتهي دائما بنهاية مأساوية. وكأن العالم يتكرر عبر مشاهده التي نراها، لا شيء جديد في هذه القصص.. سواء من روما أو أثينا أو سوريا أو جدة، كلها واحدة لا نختلف عليها إلا في بعض التفاصيل التي يمكن لأي كاتب أن يغيرها، ويضع لها النكهات المطلوبة كي تخرج في أجمل صورة.. بينما الأصل واحدا لا يختلف.
ألم يقلن بنات تراخيس من سوفوكلس
" الليل ذو النجوم لا يدوم للبشرولا المصائب ولا الثروةوعندما تذهب بعيدا عنايأخذ إنسان آخر دوره منها"وترد ديانيرا التي تنتظر عودة هرقل
" نعمفالنبت الغض يبزغ برعما،وينمو ويترعرع في أماكنه الخاصة التي تحميهمن وهج الشمس ووابل المطر وعاصف الرياحولكنه يتمتع بحياة ناعمة.ما علينا... لقد بكيت من قبل مصائب كثيرة حطت علي.."نعم ما علينا يا ديانيرا فالمصائب كثيرة.
أرأيتم كم هي جميلة الأساطير، حتى ونحن نشارك فيها عبر ومضة عاطفية تكون قاصمة للظهر، سواء كانت شرقية أو غربية.. بيد أنني وأنا أرى السيل للعام الثاني على التوالي وقد كنت في حالة يرثى لها لمع شيء من الأسطورة البابلية حيث أن النهر يكون هو السد الذي يقف منيعا بين العالم العلوي وعالم الأموات (العالم السفلي). يا لها من فروقات لم أكن أعلم عنها إلا بعد أن رأيت السيل الجارف.