الثلاثاء، 31 يناير 2017

إرث الجنية العاشقة العالمي

الموروث الشعبي العالمي لا يخلو من التشابه، فالإنسان بطبعه واحداً أينما كان، ولعل المخيلة الإنسانية تسير في اتجاه واحد في جميع أنحاء العالم.
جيت لي ( jet lee ) الممثل الصيني يقدم فيلمه " العصا والأفعي " أو ((Sorccer And The White Snake ) ويمثل كاهن المعبد في مدينته، ويحمل في يده عصا ، وليس مسبحة ، لمطاردة الجن والشياطين بهذه العصا. والقصة تتمحور حول طبيب يجمع الأعشاب وذهب للجبل مع بعض أصحابه ليقطفوا الأعشاب الطبية.. وتراهم جنيتين واحدة منهما خضراء اللون لعوبة والثانية بيضاء اللون هادئة ، ومن شيطنة ذات اللون الأخضر تحولت إلى أفعى وذهبت لإخافتهم وجراء ذلك سقط الطبيب في النهر، فتحولت البيضاء إلى إمرأة وقفزت خلف الطبيب لتنقذه، وفي عمق النهر وضعت فمها على فمه كي تمنحه هواء فكانت قبلة العشق.


" والقزويني في كتابه " عجائب المخلوقات " يروي حكاية عفريت اختطف جارية من فزارة وقع في حبها فأبلي الحب جسده وعذبه الوجد وأذله العشق ، فعرض علي الرجل الإنسي الذي تصدي لتخليصها أن يجز ناصيته رغم ما في هذا من الهوان أو أن يأخذ ما يشاء من الإبل أو أن يخدمه أيام حياته في سبيل أن يترك له محبوبته. ولما يئس من الرجاء عبر عن ما يقاسى من الوجد بقوله :
بلي جسدي والحب يبلي جديده ولم يبل مني إذ بلي جسدي وجدي"
وحكاية العشق هنا تتكرر في الكثير من الموروثات الشعبية العالمية، فما بين الصين وبلاد غامد في الجنوب قصة سمعتها بأذني حيث كانوا يتحدثون عندنا عن " أولاد جنية " والقصة تتمحور حول عشق الجنية لإنسي فتتزوج منه وتنجب أولادا هم شواهد إلى اليوم!! لنجد ذات القصة في الشمال وفي الشرق وفي الغرب تتغير حسب الرواية.. والنهاية هي العشق وبعدها تختفي الجنية ولا أحد يعلم أين ذهبت!!
والجِن جمع جِنِّيّ، ومؤنثها جنِّيَّة وهم خلاف الإنس، سُمُّوا بذلك لاستتارهم عن النَّاس. وهم مخلوقات خفيّة من النار. يقول الله عـز وجل ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾. وقوله تعالـى ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾ وقوله عز وجل ﴿وخلق الجان من مارج من نار ﴾ . وقد فسر أهل العلم قوله ﴿مارج من نار﴾ هـو طرف اللهب. وقد خلـق الجان قبـل الإنسان وسكن الأرض قبله ، بدلالة أن ابليس كان ملك على الأرض.
وقد ذكر ذلك ابن عبد البر في كتابه  التمهيد :" والجن عند أهل الكلام وأهل العلم باللسان ينزلون على مراتب فإذا ذكروا الواحد من الجن خالصا قالوا جني، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا عامر والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا أرواح، فإن خبث وتعرم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو مارد، فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا عفريت والجمع عفاريت"
وفي بلاد غامد تنتشر أسماء للجنيات " أم الصبيان ، أم الصريم ، بقعى.." وكثيرا ما تقرن بدعوات على الشخص " بقعى تشيلك" " خذيهم يا أم الصبيان " .. الخ.
ولعل كتاباً كـ " التوابع والزوابع " لابن شهيد الأندلسي يبين لنا شياطين أو جن الشعراء أو تابعيهم عبر سرد يشبه الحكاية الشعبية التي تورد عشق الجنية للإنسي، عندما يُطار به إلى بلاد الجن " تذاكرتُ يوماً مع زُهير بن نُميرٍ أخبار الخُطباء والشعُّراء، وما كان يألفُهُم من توابع والزوابع، وقلتُ: هل حيلةٌ في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمحٍ بالبَصَر، وقد أُذن له، فقال: حُلَّ على متن الجَوادِ. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتى التمحتُ أرضاً لا كأرضنا، وشارفتُ جواً لا كجوّنا، متفرع الشجر، عطر الزَّهر؛ فقال لي: حللتَ أرض الجن أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟.."
قال جرير: رَأَيْتُ رُقَى الشَيْطَانِ لا تَسْتَفِزُّهُ وقد كانَ شيطاني من الجنِّ راقيا.
ويقول الأعشى:
وما كنت ذا خوف ولكن حسبتني إذا مسحل يسدي لي القول أنطق
شريكان في ما بيننا من هوادة صفيان إنسي وجني موفق
ومسحل هذا شيطانه كما تقول العرب.
وقد حفلت أشعار العرب وأخبارهم بذكر الجن ، كأن الإنسان محور الكون حين تكون جل القصص عن غرام الجن بالإنس ذكرا أو أنثى، وذكر صاحب كتاب " خير البشر بخير البشر" أن فاطمة بنت النعمان قالت : قد كان لي تابع من الجن، فكان إذا جاء اقتحم البيت الذي أنا فيه اقتحاماً. فجاءني يوماً فوقف على الجدار، ولم يصنع كما كان يصنع. فقلت له : ما بالك لم تصنع ما كنت تصنع صنيعك قبل؟ فقال : إنه قد بعث اليوم نبي يحرم الزنا." وهي قصة ترتبط بالذهن العقائدي الذي نقرأ عنه اليوم كقول البعض " إن الغناء والرقص يجذبهم.. الخ
ويقول ابن تيمية : صرع الجن للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق ، كما يتفق للإنس مع الإنس وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد وهذا كثير معروف.
وبالعودة إلى العصا والأفعى سنلحظ أن الجنية البيضاء تعلقت بالطبيب وأصبحت تراقبه أينما ذهب.. وفي أحد الأسواق التي يقسمها النهر إلى قسمين كان هذا الطبيب موجوداً فيه، وكان الكاهن الأكبر موجود ويرافقه كاهنا مساعدا له، وجاءوا إلى السوق كي يصطادوا الجن الموجودون في السوق، وسنلاحظ هنا أن الموروث الشعبي متكررا حتى في الصين، حيث إن الكهنة يعرفون إن الشياطين موجودون في الأسواق ولهذا ذهب الكاهن " جيت لي " إلى السوق.
مساعد الكاهن وهو شاب ويحمل بوصلة تعطيه ذبذبات متى اقترب منه شيطان، لتقابله الجنية الخضراء وهي في هيئة امرأة جميلةن ورغم ارتفاع ذبذبات جهازه إلا إنه لا يفكر فيمن بجانبه بقدر ما يشاهد النهر ومن حوله في السوق، وهذه الأفعى الخضراء وهي تحدث مساعد الكاهن ترى الطبيب في قارب فتحاول أن تجذبه كي يذهب معها إلى أختها البيضاء ولكنها لا تنجح، وهو في قاربه تنفخ في ماء النهر فيتحرك القارب بشكل غريب وفجأة إذا به يسير بسرعة كبيرة في النهر ، ليصل إلى جلسة كانت تنتظره فيها الجنية البيضاء، وهناك حاولت فيه ولكنه قال لها بفم ملآن إنه يعشق واحدة.. فغضبت منه، وسألته عنها فقال: المشكلة إنني لا أعرفها ولا أعرف اسمها.. إلى أن أفصح لها عما جرى له في النهر عندما سقط وأنقذته عندهاقالت له هل لو تكرر المشهد ستفتك؟ قال: نعم. فرمته في النهر ثم قفزت وراءه. وكررت القبلة. ثم أخرجته من النهر.
بعد هذا يأتي المشهد الذي يحاكي مشهد بنت النعمان والجني يقول لها " بعث اليوم نبي يحرم الزنا".. حيث إن الطبيب يقول لن تكوني لي ما لم أقابل أهلك وأطلب يدك منهم.. وحدث رغم أن من كان في البيت عندما دعته في بيت خال لم يكونوا أهلها بل نفر من الجن دعتهم ليمثلوا أنهم أهلها.. لأنه لا يعرف أنها جنية.
في هذه الأثناء التي يعيش فيها العشاق فورة عشقهم كان مساعد الكاهن يطارد شيطانا كان انسيا فتحول إلى تنين، ومن سوء حظ هذا الكاهن الصغير أن التنين عضه. ليبدو بعد ذلك شكله يتحول حيث تكبر أذناه ويظهر له جناحين ويستطيع إخفاءهما.. أي التنين الشيطان أثر عليه في جيناته وأصبح متحولا. وأيضا الكاهن الصغير دخل في حالة عشق مع الجنية الخضراء.
الكاهن بعد ذلك قابل الجنية البيضاء وقال لها ستضرين الإنسي ولا بد أن تبتعدي عنه.. فقالت إنني من أهل الخير ولن أضره. قال لو قابلتك مرة أخرى سأقتلك أو أحتجزك. وقابلها مرة أخرى وجاء بجيشه غلى البيت الذي يسكن فيه الطبيب، وهنا تبدأ الحبكة حيث أنها تختبئ في غرفة غير التي كانا فيها وليدخل عليها الكاهن لتتحول إلى أفعى بيضاءضخمة جدا، ومع ضهورها المهيب أمام زوجها الطبيب، وهو لا يعلم أنها زوجته أخذ الخنجر وغرزه فيها.. وأثر على قدراتها مما جعلها تهرب عبر النهر.
القصة خرافية مثيرة جداً، حتى إخراجها كان جميلا.. اللقطة التي تظهر أثناء تدمير هذه الأفعى هي أن الكاهن الأكبر أراد أن يحتجز الأخت الصغرى ( الأفعى الخضراء ) عشيقة الكاهن الأصغر.. وأثناء رميه بالمحلول الذي يجذبها فجأة يجد أمامه جناح تنين صغير فإذا به الكاهن المساعد يقف في طريقة ولم يجد بدا الكاهن الأكبر من تركهما بعد إصرار مساعده على ذلك.. وبما إن الطبيب ليس كاهنا.. فإن مصير زواجه يذهب أدراج الرياح ، وعلى الرغم من مقاومة الأفعى البيضاء بأعاصيرها وقلبها للبحر والنهر والزوابع التي أثارتها في وجه الكاهن إلا أنها في النهاية أصبحت سجينة تحت المعبد.
تقول الأفعى البيضاء للكاهن: لماذا تحمل كرها في داخلك.. لماذا لا تجعل الحب هو الحقيقة؟ لماذا تجعل الحقد يسيطر عليك؟ هل تحمل عقدة ما؟ تقريبا بهذا المعنى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك