‏إظهار الرسائل ذات التسميات ميديا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ميديا. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 28 يونيو 2019

لذة النص وخطورة الميديا

عادة القراءات المعرفية تتوقف على سلطة اللغة وسلطة التأليف وسلطة الحقيقة.. وتذهب في الواقع إلى الإدراك وإلى الذهنية للقارئ. وتخضع في بعض مستوياتها إلى النفسية. وأحيانًا إلى السلوك؛ أي أن القارئ يسير على نمط محددٍ في قراءته للنص، قد نسميها ما يشبه العادة التي تعوّد عليها، وإن كانت متطورة فإننا نسميها "منهجية"، وعندما تصل إلى هذا المستوى فإنها تحمل سلطة مقابلة لسلطة المؤلف، ويكون التفاعل مع النص في أوجه، وفي هذه الحالة فإن المهارة تتكون ليتحقق المعنى في الذهنية، وهو معنىً تقبليٍّ يعتمد التأويل والتخزين، قد ينصب بعد ذلك في خانة الإنتاج عبر النقد أو التأويل مثلاً، وعدم الوقوف على حد نهائي للنص. وبهذا نضيف سلطة رابعة وهي سلطة القارئ.

لا أمتلك مخزونًا كافيًّا في هذا المسألة؛ أي بكل وضوح لست متخصصًا في النقد أو اللغة أو حتى في القانون، ولكني متخصصًا في القراءة كقارئ، وهذا هو الأهم لدي.. ومن هنا فإن عمليات التأويل لدي أو في أبسط الحدود التخمين تتجه بي نحو تنامي الأجزاء كي تصل إلى المعنى الكلي. وعوامل التحريض التي تنتابني لا شك أنها توقعني في مسائل سلبية وإيجابية، ولهذا فإن النص الذي أمامي مهما كان لن يكون كاملاً، لأنني كمتلقٍ أمتلك هدفًا أريد الوصول إليه وسيرتسم أمامي المتن الذي سأتفاعل معه، قد يكون تفاعلي بصريّا يمرّ على السطور ليلتقط جملة واحدة، وقد يكون شكاكًا مدققًا يشدّد على الكلمة الواحدة في النص. وليس من نظرية اتصالية هنا أتحدث عنها، تتمحور حول المرسل والرسالة والوسيلة، أو الكاتب والنص والقارئ، بل إنها عملية انتقائية في هذه المرحلة التي أعيشها، والتي يجب فيها أن أكون امتلك المهارة اللازمة لتحديد الهدف من قراءتي، سواء كان يأتي في إطار المتعة أو إطار الفائدة أو إطار استعراض ترفيهي، أستطيع أن أسلي به من في المجلس الذي اقتعده.

وغالب الخطباء يمتلكون ميزة القراءة الترفيهية التي تنصب في تقديم الشواهد التي تعينهم على لفت انتباه جماهيرهم، ولهذا ألحظ أن تقلّب القارئ أو تحوّله من حالة إلى حالة وهو يسمع أو يقرأ لهؤلاء تكون سريعة، وبإمكانهم الانتقال من حالة إلى أخرى، دون أن تترسخ في أذهانهم حالة من الإبداع، أو حالة من الإنتاج؛ وهذا هو ديدن الخطابة يؤثر زمانيًّا ولا يدرك ثقل المكان الذي يجب أن يتحوّل إلى حالة ثقافية منتجة، لأنه لا يريد من المستقبل أن يُنتج بل يريده أن يستمر مستهلكًا لكلماته فقط، وهذه الحالة تشبه الطبيب الذي يمنح مريضه دواء هو الداء كي يستمر المريض في زيارة الطبيب ولا ينقطع عنه. إن الجرعات المسمومة المطعمة بجرعات من العلاج تبقي الشخص على حاله ولا تغيّره إلى الأحسن، واستمراريته على هذه الحالة تفيد الطبيب/الخطيب المجيد للتوصيف وللبلاغة. ولا تعتقدون هنا أن ما أرسمه هو ضد الخطابة، ولكنها مع القارئ وليست مع الخطيب، فالقارئ يستمتع هنا بما يستقبله، ويشعر أنه يعيش الوعي الذي يريده.

الأربعاء، 12 يونيو 2019

الإعلام بين الـ"ورق" والـ"com"

طُرحت كثيرًا مسألة انتهاء "الصحف الورقية" ونوقشت كثيرًا، على مستوى العالم وليس على مستوى المملكة فقط. وما أعجب له هو أن هذه النقاشات انصبت في إطار واحد فقط، وهو الحديث عن كيفية إنقاذ هذه الصحف، أو ما هو المخرج الذي يجب أن تتخذه كي تنقذ نفسها؟ إن الجانب الذي يجب مناقشته هو هل البديل لهذه الصحافة سيقوم بالدور الذي كانت تقوم به؟ وهل سيخدم المجتمع مثلما فعلت الصحافة الورقية؟ هل سيخدم السياسة مثلما فعل الإعلام التقليدي "البليد الآن"؟!

أجيب في التالي:
إن "الكوم" يمثل إغراء للآخر ويعطي الهيمنة والتأثير على الدوام، ولكن التقنية تقدّم الالتباس بشكل واضح، فمع "التقنية كل شيء يميل إلى البساطة أما مع البشر والمجتمعات فكل شيء يميل إلى التعقيد." (دومينيك وولتون، الإعلام ليس تواصلاً). العقدة الأخطر في التقنية هي "عدم التواصل" وفي نفس الوقت الاتصال والتأثير السريع، لا تنسوا كلمة السريع هنا، وهو تناقض مكشوف تمامًا لنا، والعملية التبادلية هي التي تحقق الرضا لدى التقني كونه يرى الإغراءات أو الهالة التي حوله، ويعتقد أنه يقدّم عملاً إعلاميًّا أو ثقافيًّا أو اقتصاديًّا أو حتى سياسيًّا، بينما هو في الحقيقة يقدم خوارزميات ولكنها سطحية لا ترتقي إلى "الفكر" بل إنها تدور في فلك الدوائر التشعبية المرتبطة بالتقنية، والمحتوى يأتي مترابطًا مع هذا التشعب، ويسعى إلى الإشباع السريع للمتلقي، ليدور في خوارزمية حتى تنتهي وينتهي دورها، ويكون التأثير هنا وقتيًّا كون الرسالة سيتبعها رسالة تُنسينا الرسالة الأولى، وركزُوا جيدًا في هذا، إذ إن الإعلام التقليدي كان يمنحنا فرصة، ويعطينا الوقت كي نتأمل ونتفحص ونحفظ الرسالة، حتى تأتي بعدها رسالة أخرى بعد فترة من الزمن، وهذا ما لا يفعله الـ "com"؛ ولهذا فإن المشكلة تبدو واضحة في أن الحاضر سرعان ما يصبح ماضيًا. ولا يعني أن 5.6 مليار إنسان يستخدمون الانترنت "أن ذلك يفضي إلى التواصل" بقدر ما يعني أننا "نختفي في قلب ما يمكن رؤيته" (زيجموند باومان، الرقابة السائلة)، بحيث أن الإنسان لا يقدّم رسالته بل إنها تختفي بمجرد رؤيتها، وبالتالي فإن التأثير ليس قياسيًّا مثلما نرى، ولكنه زمنيًّا، ويتوقف بمجرد اختفائه، وبمجرد ظهور رسالة أخرى.


كما أن "الكوم" لا تقدم خدمة للتعايش بقدر ما تفصل المجتمع عن بعضه البعض وتجعل عملية التواصل ـ مثلما قلت سابقًا ـ غير موجودة، وهذا ما يفضي إلى خلو المجتمع من الروابط الاجتماعية وانحصاره في الروابط التقنية عبر "الكوم". في هذا النموذج كنت أجلس في المقهى أحدهم يقرأ صحيفة كنت أنتظره حتى ينتهي منها فأقرأها ونبدأ بعدها في النقاش حول ما جاء فيها. الآن أجلس في مقهي يجلس صاحبي إلى جواري يقرأ في جهازه وأنا أقرأ في جهازي وكل واحد منّا لا يدري ماذا قرأ الآخر. قريبان ولكنّا بعيدان عن بعضنا بهذه الأجهزة.
بوضوح تام لا يهمني أن أتواصل مع بعيد من عالم آخر، بقدر ما يهمني أن أتواصل أولاً مع من هو إلى جانبي، وهذا هو الرمز المعياري للمجتمع الواحد، وليس الرمز المعياري للعولمة، لأنني أخدع نفسي إن نصبتها على أن تعيش في مجتمع آخر عبر "الكوم" وتعتقد أنها تعيش حياتها، بينما هي أصلاً منفصمة عن مجتمعها مما يؤدي في النهاية إلى انفصامها حتى عن المجتمعات الأخرى.

نشر في صحيفة الرياض