- صناعة الطغيان (1)
سنحرمكم من العدو
" التاريخ هو المنتج الأكثر خطورة من بين ما حضّرته كيمياء العقل،
يبعث على الحلم ويسكر، يولد ذكريات وهمية، ويحافظ على الجروح القديمة، يقود إلى هذيان العظمة أو إلى هذيان الاضطهاد" بول فا يري
صرخ، مستشار الرئيس غورباتشوف، الكسندر أرباتوف الآن " سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو!"[1] ويا له من مشهد مأساوي أن لا يكون لأمريكا عدواً، ويا لها من ديمقراطية أن لا يقابلها استبداد، وأن يموت طغاة أمريكا اللاتينية أو الوسطى. ستتوقف الآن الشاشة الذهبية عن البث، وستُغلق دور السينما في أمريكا، لم يعد هناك خطر أحمر، ليس من جيمس بوند، لقد انتهى كل شيء.. انتهى الكاوبوي.. انتهى رامبو. شيء محزن للسياسي التاجر أن تتهاوى الكتلة الشيعية هكذا، وأن تموت حرباً عاشت لسنوات كي تحفز كل جانب من أجل أن يحرك الناس، وأن يتلاعب بعقولهم، عبر وهم تم بناؤه لأكثر من خمسين سنة تقريباً.
إن أمريكا تعيش في الفراغ اللامتناهي، وستتعطل قدراتها إن استمر الوضع بهذا البرود وعليها أن تحرك ديمقراطيتها من أجل إنقاذ العالم من الاستبداد، وبمثل هذا الموت المفاجئ للإتحاد السوفيتي سيموت الكثير من الطغاة في أمريكا، ولهذا لا بد من إعادة رسم خيوط اللعبة العالمية من جديد. أليست وظيفة السياسي الأولى هي تعريف العدو؟ مثلما يقول المحامي كارل شميث، إذن يتحتم على أمريكا والغرب من ورائها أن تعرَف العدو وتعرّفه تماماً، " يفترض أن نصل إلى السياسي، ونحاربه، ونعارضه، وندحضه"[2] فمنذ عام 1990م لم يعد السياسيون يعرفون العدو، بل كانوا يتعرفون على حروب أهلية حيث تحولت أزمات العالم إلى محلية الطابع تقريباً، أو هكذا يصورها الغرب مثل: يوغسلافيا، الصومال، تيمور، رواندا، كونغو، هاييتي، أفغانستان، أي بصورة ما باتت المنهجية تقليدية ومعروفة، وليست ذات مغزى عالمي، ورغم تفاهة التصور هنا لأن الحرب هي حرب، أينما كانت ومهما كانت، وعلى الرغم من الوصف المتهاون، لحرب يوغسلافيا وللصومال، بل لكل الحروب، من المحللين والسياسيين الغربيين إلا أن بشاعتها تمتد لأجيال، ولعل الصومال خير مثال لهذا، ولعل لبنان أيضاً تمثل حالة أخرى، إلى أن بلغنا اليوم سوريا والعراق.
لقد عرفت أمريكا المد الشيوعي بـ " الخطر الأحمر" وعرفت ألمانيا الصين بـ " الخطر الأصفر " ، وتعرفنا على "محور الشر" الثلاثي العراق وإيران وكوريا الشمالية، أيام بوش. قد نتعرف يعد قليل على " خطر الصحراء " أو " الخطر الأسمر" القادم من العالم العربي، لكن.. إن المد " الأخضر" قادم إليك يا أمريكا، وها هو الخطر " خطر الإرهاب" يزحف نحو الغرب ليهدد ديمقراطيته المتسمة بالحميمية تجاه الإنسان، بحيث أنه يستطيع قتل أخيه الإنسان ويقول له :" أنا آسف، ولا تحقد عليّ فهذا عمل!!"، هذه الجملة التي يرددها الطغاة حسب تصوير هوليوود في أفلامها، عندما يقتل المجرم صاحبه ويقول له أنا آسف إنني " محترف" إنني أعمل، وأكسب لقمة عيشي!! هذا العدو الذي صنعه بوش واستخباراته بهدم برجي التجارة، ليعلنها حرباً صليبية، وهو منزلق خطر ستغوص فيه أمريكا والغرب. ويبدو أن السياسيين أيام بوش لم يعرّفوا العدو جيداً لأنهم أخطأوا في التعريف. ومع ذلك فإن هذا العدو ماثل أمامهم مهما راوغ السياسي منهم، ومهما فعلوا لتبرير أفعالهم في المنطقة العربية.
بعد الحرب الباردة وسقوط الشيوعية وجد الأمريكان أنفسهم في حالة من التكلس، ورأوا أن جلوسهم هكذا لن يحرك هممهم نحو الإنتاج، وكأنهم لم يتنبهوا لمقولة نيتشه: " إن من يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدعه يعيش"[3] .. فهل فعلا فعلوا؟
لنقف هنا ونرى أن ما حدث هو الآتي:
أولاً: نتج في فكر الأمريكان فراغاً أيديولوجياً وهناك حاجة ملحة لصناعة مواجهة أيديولوجية في العالم، والمواجهة أصلاً جاهزة فقط تحتاج لتحريكها.
ثانيا: انفلات وسائل الإعلام نحو الداخل، وتوجهها نحو نقد الواقع، دون أن يكون هناك مردوداً يحرك المشاعر نحو الوطن، وعدم وجود قلق قد يقوض وحدة الأعراق الكثيرة والمتنوعة في أمريكا.
ثالثاً: الشعور بأحادية القوة، وأنها مركز العالم.
هذه العوامل الثلاثة جعلت الساسة في أمريكا يتحركون كي يبدأوا مع عدوهم الجديد وليشغلوا به الرأي العام، ويواصلون سيطرتهم على العالم.
يقول الجنرال إيريك دو لا ميزونوف عن الاتحاد السوفيتي " إن غيابه يخرق تماسكنا ويجعل قوتنا غير مجدية " قد يقصد بالقوة غير المجدية أن السلاح سيبقى في المستودعات ولن يتم تسويقه، ولهذا سنعود للتصارع فيما بيننا، ولو توقفنا عن تدمير العالم فإن هذا ليس من مصلحتنا، وكأنه يشير وبقوة إلى عدم الركون إلى الهدوء والسلام مع العالم وإلا فإن وحدة أمريكا ستكون مهددة من الداخل، وسينكسر هذا التماسك الذي كانوا فيه يداً واحدة ضد الاتحاد السوفيتي.. والآن لا بد من صناعة عدو جديد كي تستمر عجلة الوحدة والقوة!!
وبعد هذا؛هل سخرت أمريكا جملة نيتشه السابقة، بعد أن سقطت في فخ احتلال العراق وقتل صدام حسين، في يوم عيد المسلمين الأكبر، في يوم الأضحية وكأنها تعلن بكل بجاحة إنها الحرب عليكم وعلى دينكم وعلى شعائركم أيها المسلمون، وبعد أن قتلت معمر القذافي؟! هل فعلت ذلك ورتبت الوضع في سوريا وجعلته في حالة من الفوضى؟ هل العدو فعلاً يقف أمامها؟ أم أن العدو هو في تركيبة الساسة الذين يسيرون الولايات المتحدة الأمريكية؟
الفكرة هنا ليست في صناعة السينما عندما برمجت الشعب الأمريكي عبر أفلام هوليوودية عن رجل الكابوي والغرب الأمريكي الذي صور النزاع الأمريكي ـ الأمريكي بأنه انتصر على الطغاة وعلى من لا يريدون الحرية والديمقراطية،وعلى من يقفون ضد تطور البلاد، بل إنها صناعة السياسي الذي يمجد صناعة وتعريف العدو، وكأن رجل الكابوي أراد فقط تدمير الروح، فهو يريد إنساناً بلا بروح، منزوع من كل فضيلة تردعه أو تقف في وجهه، وهو تخطيط ممنهج قامت عليه الولايات المتحدة وصنعت مجدها من خلال قتل الروح في الإنسان، ولهذا تريد للكرة الأرضية أن تتخلى عن عقائدها وشعائرها، وترغب في انتزاع كل ذلك من أجل إحلال السلام العالمي للطغمة الصغيرة التي ترغب في تحريك المعمورة بالريموت كنترول، وتقرير مصير الكائنات فيها، ليس الإنسان فقط.
إن العالم لا يقف أمام هذا الزحف الذي تريده أمريكا، والشعوب لن ترضى بتبديل شعائرها لتتبع شعائر أمريكا، والبلدان في كل أرجاء المعمورة لن تصفق للديمقراطية المايعة، والمتماهية في الكذب والخداع والغش، بل إنها ستصمد وستقاوم هذا العبث، وستقطع اليد التي تريد أن تجردها من إنسانيتها وضميرها، وكم من قتلى ذهبوا في سبيل وطنهم، وجعلوا أرواحهم فداء لشعائرهم.. لهذا فإن المنزلق الذي تعيشه أمريكا سيعود عليها بالوباء، ولا شك أنها ستلحق بالاتحاد السوفيتي، فالطغيان دوما له نهاية!!
غاستون بوتول، وقد شارك في الحربين العالميتين، في كتابه "بحث في علم الحرب" يرى أن ما يحشد ويعبئ للنزاع ليس الدول أو الأفراد بل القناعات والمعتقدات"[4] وقطعا هنا القناعات ليس قناعات الشعوب إنما قناعات صنّاع القرار في الدول، وأيضا معتقداتهم، وأرى أن هذه حقيقة ليست بعيدة فالمعتقد في النهاية هو من يسير الشخص. والعكس أيضاً فالروح أهم مؤثر في حياة الشعوب ومعتقداتها أقوى رادع يقف أمام هذا الزحف. ولكن القناعة كيف تأتي لصنّاع الأعداء في مثل هذه الحالة؟ لا شك أنها تُرسم عبر المؤثرات أو النوابض التي تعمل حول متخذي القرارات، وهذا ما أثرى حالة التوجه نحو " صناعة العدو" من قبل الأمريكان حيث أن النوابض التي تتحرك بها السياسة الأمريكية هي الكربورقراطية، التي لا تريد التوقف عن الإنتاج ، وتحديداً لا تريد إيقاف صناعة السلاح المربح جداً لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك