الأحد، 2 أبريل 2017

الحرب القذرة على العالم (13)

 الـ  pax Americana


إن لدينا أفضل الصلات في أفضل بقاع العالم... نحن على قمة العالم .       


ريدرز دايجست ، الطبعة العالمية " اﻟﻤﺠلة الأكثر رواجا في العالم " 23 أكتوبر 1972


يقول ريتشارد نيكسون:"من السمات الأساسية لأسلوبنا في الحياة إيماننا بأنه عندما يعمد الحكام إلى الإستئثار المنظم بالمعلومات، التي هي حق خالص لجمهور الشعب، فإن أفراد الشعب سرعان ما يصبحون في وضع يجهلون معه كل ما يتعلق بشؤونهم الخاصة... وسيفتقرون في نهاية الأمر إلى القدرة على تحديد مصائرهم الخاصة[1] " وهذا القول لم يكن وليد تلك اللحظة فسبق وأن أشرنا أنه عندما أسس "ترومان" مكتب الخدمات الإستراتيجية عام 1941م، كان الهدف منه اكتشاف الخطر قبل وقوعه، أي أن يقوم بعمليات استباقية ، ولهذا كان " كل عضو فيه يحمل حقيبة صغيرة بها بندقية قصيرة وعدد من القنابل اليدوية وبعض العملات الذهبية وحبة دواء قاتلة لتنفيذ عمليات قذرة.."[2].

ونعلم أنه أغلق هذا المكتب ولكنه عاد حين اكتشف ترومان حاجته إليه أمام المد الأحمر آنذاك.. واشتعلت الحرب الباردة بينهما والعالم مشغول بمداواة جراحه، بينما الرأسمالية الأمريكية والشيوعية يخططان كيف يسيطران على العالم.

لتخطو أمريكا في هذا الجانب خطوة جعلتها تسير عليها إلى اليوم ، حيث أعلن ترومان عام 1949م عن برنامج النقطة الرابعة لتأييد "السلام العالمي" وفق محاوره الأربعة [3]

وتنبه الأمريكان لخطورة الثقافة منذ بداية تكوين الدولة، فقتلهم في ( هولوكست الهنود الحمر) لـ 112 مليون هندي لا يعني محو حضارة الهنود الحمر، فتاريخياً يصعب محوها، ولا يعني تحرير وتوحيد البلاد، ولكن بقتل هذا العدد الكبير فهو يؤشر إلى الرغبة في محو الثقافة، فمن تبقى من الهنود الحمر لا بد أن ينخرط في الثقافة الجديدة أو مصيره الموت. [4]

وما مقولة نيكسون أعلاه سوى إحدى علامات التوجه الذي تنتهجه أمريكا في العمل على محاربة الثقافات، حتى في الداخل الأمريكي، الذي كان يزخر بالمبادئ الشيوعية آنذاك. ومن هنا فإن الثقافة هي العنصر الأساس في عملية السيطرة على العالم، وجعل العالم يعيش في فوضى أو جعله مستقراً، والغالب أن الفوضى هي التي يجب أن تستمر، وبالفعل الثقافي تستطيع تغيير المفاهيم وتغيير السلوكيات، وتوجيه الوهم حسب متطلبات الفرد، وحسب رغباته وتوجهاته، بعد دراسة سلوك المجتمعات، وسعي الشعوب نحو وهم صناعة العقول، والاتجاه في الطريق الصحيح للوصول إلى قمة الحرية، التي تصنعها الآلة الغربية وعلى رأسها أمريكا.

إن الحرية هذه التي يتحدث عنها الغرب مكمنها في التخلي عن النمط القديم والتوجه نحو نمط جديد هي من صنعته، ولعل " نادي القلم الدولي PEN الذي كان له 76 فرعا في 55 دولة بذلت فيه المخابرات الأمريكية جهداً وجعلته يخدم مصالحها، بل وأكثر من ذلك فإن متحف الفن الحديث في نيويورك خضع لها حيث كان يعرض أعمالا متحررة عن القواعد اللفنية المتعارف عليها باعتبار التحرر من القوالب يعد رمزا للديموقراطية".[5]

" وبعد أن سكت هدير المدافع وأزيز الطائرات والقصف في الحرب الكونية الثانية، وحتى سنوات السبعينيات من القرن العشرين، كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تدير معركة ضارية من اجل الاستيلاء على العقول وأمركة العالم، فتكونت شبكة محكمة من المثقفين والأكاديميين  يعملون بالتوازي مع  CIA، راديكاليون، مثقفون يساريون مرتدون، روائيون، شعراء، فنانون تشكيليون، مؤسسات وهمية وتمويل سري وحملة ضخمة من الدعاية تديرها ( منظمة الحرية الثقافية )التي كانت وزارة غير رسمية للثقافة الأمريكية".[6] والتي تحولت عام 1967م إلى " الاتحاد الدولي للحرية الثقافية". [7]

ولهذا فإن الثقافة أصبحت تصنع الأعداء وتصنفهم، وتدير عملية تسيير العالم، وفق الرؤية الأمريكية الجديدة التي انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تتوقف هنا بل ذهبت إلى إنشاء فروع لها في 35 دولة، وأصدرت أكثر من 20 مجلة، وقامت بتنظيم المعارض الفنية والحفلات الموسيقية، كي يصل العالم إلى الأسلوب ألأمريكي الحر عبر الموسيقى والمسرح والسينما. وأيضاً برزت أسماء مفكرين وكتاب وباحثين وفلاسفة ساهموا في الدعاية لأمريكا الجديدة، مثل:" اندريه جيد،نابوكوف، اشعيا برلين، كليمنت جريتيرج، سدني هوك، ارثر كويستلر، روبرت لويل،هنري لوس، دي بوسيس،اندريه مالرو، ماري مكارثي، روينولد نيبور،جورج اوريل، جاكسون بولوك، برتراند رسل،جان بول سارتر، ارثر شليزنجر، ستيفن سبندر... وغيرهم[8]

وقد " بدأت وكالة المخابرات المركزية الرعناء منذ عام 1947م في بناء كونسورتيوم consortium (إتحاد) له واجب مزدوج: تحصين العالم من الشيوعية، وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية الأمركية في الخارج. وكان من نتيجة ذلك؛ أن تكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعمون بالتوازي مع الوكالة للترويج لفكرة مؤداها أن العالم بحاجة إلى سلام أمريكي americana pax وإلى عصر تنويرجديد، وأن ذلك سوف يسمى " القرن الأمريكي"[9]

ولم يقف دور هذه المنظمة عند شن الهجوم على الشيوعية فقط، بل تجاوزت ذلك إلى التدمير وإن لم يفد التدمير ذهبت إلى الاغتيال مثلما حدث للشاعر التشيلي نيرودا حيث وقفت ضد فوزه بجائزة نوبل عام 1964م، ولكنه منح الجائزة عام 1971م واغتالته المخابرات الأمريكية عام 1973م[10] ، ومثلما دبرت المخابرات الأمريكية قلب حكومة مصدق " في إيران عام 1953م، وأسقطت حكومة "آربنز" في جواتيمالات عام 1954م وعملية خليج الخنازير الكارثية عام 61م، وبرنامج "فوينكس" في فيتنام. ومثلما احتلت افغانستان، وفي شهر أيلول سبتمبر 2002م، أذاعت إدارة بوش على الملأ استراتيجيتها للأمن القومي، وفيها أفصحت عن حقها في اللجوء إلى القوة للقضاء على أي تحدٍّ منظور للهيمنة الأمريكية على العالم، التي يجب أن تكون دائمة.[11]  لتسقط صدام حسين وتحتل العراق..والشواهد كثيرة جداً. بل إن تأسيس نظام " التضحية والقصاص" والتي أشير إليها في مذكرة مجلس الأمن القومي رقم 68، وهي واحدة من وثائق الحرب الباردة الأكثر سرية، وحددت فيها الأطر الأساسية لسياسة " الحاجة للقمع" لدليل على هذا التوجه القمعي وليس الديموقراطي ولا يقترب من مسألة الحرية بأية حال.

يقول تشاومسكي:" لقد استمر نمط السياسة الأمريكية دون تغير، والدليل على ذلك التفسير الحالي لحملة الذبح والتعذيب والتدمير التي نظمتها الولايات المتحدة وأدارتها في أمريكا الوسطى خلال عقد الثمانينيات لقهر التنظيمات الشعبية .. لقد هددت تلك التنظيمات بخلق قاعدة لتوظيف الديموقراطية بما يسمح لشعوب تلك المنطقة البائسة ـ التي وقعت لزمن طويل في القبضة الأمريكية ـ من تحقيق درجة من درجات السيادة وحكم الذات. ومع هذا توصف تلك الفترة المخزية من العنف الإمبريالي الأمريكي بلا مبالاة بأنها علامة على سمو مثلنا ونجاحنا الباهر في دفع الديموقراطية ودليل على احترامنا البالغ لحقوق الإنسان في ذات الإقليم البدائي. كما تغاضينا أيضاً عن تجاوزات أخرى ارتبطت بتنافسات الحرب الباردة التي أوقعنا فيها أمريكا الوسطى في ورطة سخيفة. والتفاصيل في هذا الشأن كثيرة ولا تحتاج لأكثر من أن تنفض الغبار عن أراقها.[12]

والمكارثي في هذا السياق هو السيناتور مكارثي الذي برز في هذه الجوقة حين قام بحملة كبيرة أتلف فيها آلاف الكتب والوثائق من المكتبات العامة والخاصة التي تتحدث عن الشيوعية " وبكل هذا الغموض الكافكوي أصبحت أعمال مئات الكتاب والفنانين الأميركيين في سلة مهملات السياسة، وفي لحظة ضعف أذعنت جميع المراكز الإعلامية الأميركية لمكارثي، وتم تدمير عشرات اللوحات للرسامين السوفيت الموجودة في المتاحف الأميركية فضلا عن تطهير المكتبات العامة من أعمال  سيجموند فرويد.[13]

وكتابات اينشتاين وكتابات جون ريد والأعمال الروائية لتوماس مان، كانت عمليات التطهير الثقافي في البلاد تجري بسرعة مخلفة وراءها الحرية التي كانت تدافع عنها، كانت المكارثية قصة بطولة زائفة، والفصل الأكثر بؤسا في التاريخ السياسي والثقافي الأمريكي، بعد أفول نجم مكارثي العام 1957 وموته كمدمن على الكحول، حاولت أمريكا بكل الإمكانيات أن تطرد شياطينه من الحياة العامة وان تتخلص من تلك الحقبة العــــار في تاريخها. هل كانت أمريكا تعاني من الرهاب الشيوعي؟  نعم في تلك الحقبة الملتبسة كانت أمريكا تعاني الرعب من الخطر الأحمر الذي التهم
العالم. [14]

هذه صورة (منظمة الحرية الثقافية ) التي تم توظيف الموارد المالية  الضخمة لتسيّر نشاطاتها، وتحقق أهدافها، وبرامجها السرية تحت غطاء الثقافة، لتعم العالم بأفكارها، بل تسممه بأفكارها الذاهبة نحو الهيمنة والسيطرة على العالم، ومع إدراكها بأن العالم لو اكتشف ما تفعله لوقف في وجهها، ولهذا كانت تعمل تحت غطاعدم الوجود، ولا أثر للرجل الذي يديرها مركزياٍ من المخابرات الأمريكية مايكل جوسلسون في الفترة من العام 1950 إلى العام 1967، والتي كانت تسير عملها عبر المكاتب التي نشرتها في العالم تقيم المعارض والمهرجانات الشعرية والمؤتمرات الفكرية وتمنح الجوائز.

إن الباحثه فرانسيس ستونر سوندرز كشفت في كتابها (الحرب الباردة الثقافية ) طبيعة تلك العمليات الواسعة والضخمة من تاريخ أمريكا الثقافي معتمدة على الوثائق والمقابلات الشخصية.

"والكتاب مسح لدور المخابرات المركزية  الأمريكية في إعادة بناء تصورات عن الصحراء الثقافية الأمريكية والإسهام في جعل القرن العشرين قرنا أمريكيا بامتياز عبر شبكة من المؤسسات والمنظمات والمثقفين"[15].

إن البحث في المسألة الثقافية الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية وبروز مصطلح ( الحرب الباردة) فيه إيحاءات كبيرة تدلل على أن الثقافة لم تكن تريد للنوع الإنساني أن يعيش بسلام، بل إنها سعت جادة في أن يكون هناك قوة واحدة مهيمنة على العالم، وما تفكك الاتحاد السوفيتي إلا علامة على هذا التوجه، وهو ما حدث بالفعل، ووصلت أمريكا إلى مبتغاها، حتى وإن اسشهد نعومي تشاومسكي في كتابه " النظام العالمي القديم والجديد"، بمقولة المؤرخ ديفيد فروكمين: "محركات السياسة الأمريكية هي برمتها " محفزات إنسانية"[16]  فإنها لم تكن ولن تكون في يوم من الأيام محفزات إنسانية، بقدر ما هي محفزات للسيطرة أكثر على العالم، ونشر البؤس والفقر في جميع أرجاء المعمورة، حتى وإن حققت ما تريد فإن العالم لن يقف متفرجاً، ويدرس ما تفعله أمريكا، حتى وإن كان ببطء إلا أنه يتحرك في العمق، ويستفيد من القشور والتسرع الأمريكي، ليواجه هذه الصفعات بصفعات أقوى، ومؤثرات قد تلحقها بالإتحاد السوفيتي.

ونختم هنا بمقولة المحارب الأمريكي الموصوف بالوطني الكبير إبان الثورة الأمريكية الكسندر هاميلتون ( 1757 ـ 1804)، وهي دليل على أن التفكير في الداخل والخارج على حد سواء، وهو بقاء من يهيمن على السلطة في السلطة، بغض النظر عن الشعوب، وقد بدأنا حديثنا عن الهنود الحمر وننهيه بهذه المقولة في هذا الجزء: "علينا أن نضمن ألا يبتعد الوحش الكبير، وهي تسمية للشعب، عن قفصه الخليق به.[17]

___________________________________________________

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا وسهلاً..سأحتفي برأيك