(1)
صاحب كتاب "المجتمع المنحط" يقول: إذا كنت تتسوق مثلًا لشراء شيء "منحط" على أمازون، فإن خوارزمية البحث ستقدم لك في الغالب رومانسيات إباحية وشوكلاتة الفراولة" ويورد هذا على أنه يأتي في السياق الشعبي، أو قرينة الخيال الشعبي. أي كأن أمازون أو الخوارزميات ترتبط بالخيال الشعبي لتحيل ما يفكر به هذا الخيال إلى مرئيات يمكن أن تختار منها ما تشاء. ولكن وروده يأتي على اعتبار أن الجنس والشراهة هما المرتبطان بهذا الخيال الشعبي. طبعًا كلمة "المنحط" التي وضعها بين قوسين لم تكن واضحة، ولم تدخل في الصميم، لتعرّف لنا ما هو "المنحط"، وله عذره لأنه ذاهب نحو تعريف "المنحط" وماذا يعني؟ وقد أكون مخطئًا أو مستعجلًا عندما اقتطفت هذا الاستشهاد في التمهيد الذي أورده المترجم. وعلى الرغم من أنني أضع أمامكم هذه ا
لنتيجة إلا إنني أنظر إلى أن الاختيار لهذه الجملة في حد ذاته من كتاب كامل يدلل على أنها أهم ما فيه. وقد تبين لي أن هناك جمل أهم منها بكثير. وربما آتي عليها لاحقًا، لأن ما يهمني هو حكاية الخوارزميات التي تفترض أن "فرويد" هو أستاذها، وهو الذي قنن المخيال الشعبي وجعله في اتجاه واحد ينصب ناحية الجنس، وفي هذا إشكالية كبرى تدلل على أن ما تفعله الخوارزميات هو مناقض لطبيعة الإنسان التي تتأرجح بين العقل والعاطفة، بين متطلبات النفس ومتطلبات الجسد، وهذا ما لم يكن في حسبان الخوارزميات، إذ إنها بهكذا بناء إنما تقوم على المخادعة، وعلى الأيديولوجيا،، ليظهر أمامنا "ايديولوجيا الخوارزميات"، لأن هذا الشيء "المنحط" الذي ذهبت إليه يفترض أن تتبعه الخوارزميات وأن تعطيني ما يحاكيه، لا أن تعطيني ما قاله وافترضه "فرويد".
لقد عشت تجربة سنة كاملة على "الريلز" في الفيسبوك و"الشورت" في اليوتيوب، وكنت أتتبع المثقفين ولقاءاتهم، ومع ذلك فإن خط الريلز والشورت لم يتغير، وقليل ما يظهر لي حوارات أو لقاءات أو ندوات لمثقفين، بل غالب ما يورده لي لفنانات ولعارضات أزياء ولسخافات التيك توك المنسوخة في دقيقة أو ستين ثانية، أي أن افتراض "فرويد" هو الذي يسيّر مثل هذه المقاطع للتبعه "الخوارزميات" وتلقي به في الطرقات التي نسير فيها، وليس عليها. لألحظ أنه بعد اهتمامي في الشهر الأخير بالأفلام الأمريكية أن مقاطع "الريلز" و"الشورت" التي تظهر قصاصات من هذه الأفلام تزداد يومًا بعد آخر.. أي كأنها نسيت وصية "فرويد" وتركت الجنس وهمومه لدى الخيال الشعبي، لترى أن الأفلام الأمريكية هي الأهم الذي يجب أن يسقط أمامه السيد "فرويد"، وهذا يدلل على التقنين الذي تقوم عليه "أيديولوجيا الخوارزميات" وأن هناك أولويات يجب أن تعمل عليها.
(2)
يقول روس داثت في كتابه السابق الذكر " قد يسأل المرء: كيف يعرف المؤرخ متى يبدأ الانحطاط؟ ليجيب: من خلال اعترافات علنية تصدر عن الضيق والانزعاج، وعندما يقبل الناس العبث واللاجدوى كأن ذلك وضع مألوف، تكون الثقافة في انحطاط" 38 . وأذكر هنا أنه يشير في كتابه هذا إلى انحطاط الحضارة الغربية، ويرى أن الحضارة الغربية صارت هجينة، وسعت إلى تحقيق غايات ولكن هذه الغايات استهلكتها، وهي التي تؤدي الآن إلى زوال هذه الحضارة. أي أن ما يتم تطبيقه في المنهج الخوارزمي يقوم على ما تتبناه الحضارة الغربية، وعلى الرغم من أنها ترى في ذلك تحقيق غاياتها إلا أنها ستكون سبب زوالها، وهذا فكر عميق يذهب إلى تحليل الأشياء دون مواربة، ودون خذلان للإنسان وليس مثلما فعل "فرويد" الذي جعل الإنسان والحيوان سواء. وهذه القراءة تمنحنا أن نفكر في هذه الحضارة الهجينة التي بدأت تغزو الخليج العربي، وبدلًا عن قراءة آخرما وصل إليه هؤلاء الدارسون للحضارة الغربية فإننا نسير نحو التجريب مثلهم، بينما ـ ونردد ذلك كثيرًا ـ "العاقل من اتعظ بغيره" ودرس الوضع حيث وصلوا ليتلافى الأخطاء التي وقعوا، ولا يضع خوارزميات تستند على خطوات الغرب السابقة.
يقول دواثت: "المجتمع الذي ينتج الكثير من الأفلام السيئة ـ مثلًا ـ لا يجب أن يكون منحطًا، بينما مجتمع يصنع الأفلام نفسها مرارًا وتكرارًا قد يكون كذلك. والمجتمع الفقير المثقل بالجريمة ليس بالضرورة مجتمعًا منحطًا، بينما مجتمع غني ومسالم ولكنه منهك وكئيب ومحاصر بعبثية العنف وعدميته، يبدو أقرب إلى التعريف" يا له من توصيف عندما يكرر المرء الشيء الخيالي أمام الناس دون أن يصنع على الأقل فيلمًا سيئًا، تكرار العبث والعمل على الخيال الشعبي، والقفز به من محطة لأخرى بالتأكيد سيؤدي إلى مجتمع منحط، وهذه تجارب إلى الآن لا تؤخذ في الحسبان وهي أمامنا، ولكننا نتبع الخوارزميات التي تؤدي بنا إلى مسار العبث واللهو والفساد.